مقالات

د. فتحي الفاضلي

المشروع الغائب

أرشيف الكاتب
2017/06/18 على الساعة 18:41

مشروعان يحاولان السيطرة على المشهد السياسي في ليبيا اليوم. مشروع بعثة الأمم المتحدة متمثلاً في مخرجاته (المجلس الرئاسي، مجلس الدولة، حكومة الوفاق، والوزراء المفوضين... الخ)، ومشروع ما يسمى بالكرامة وأجسامه السياسية مثل البرلمان والحكومة المؤقتة.

وبالرغم من الاختلاف الجوهري بين المشروعين، فمشروع البعثة يعتبر (في الظاهر) مشروعا مدنيا، بينما يعتبر مشروع الكرامة مشروعا عسكريا، بالرغم من هذا الاختلاف الجوهري - في الظاهر على الأقل - إلا أن المشروعين متشابهان في كونهما مشاريع ذات امتدادات أو أصول أو خيوط خارجية.  فالمجلس الرئاسي ومجلس الدولة، وما ينبثق  عنهما ومنهما، هما نتاج لبعثة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المجتمع الدولي (مع غموض هذا المصطلح) بالتعاون مع بعض الشخصيات الليبية.

كما تكتسب الكرامة وجودها أو استمراريتها أو قوتها من قوى خارجية إقليمية وغربية بالتعاون هي أيضا مع مجموعة من الليبيين.  ويجب التنويه هنا بأن البعض ينظر إلى عملية الكرامة كعملية مؤقتة ذات مهام محددة ومحدودة، تنتهي بإنجاز مهامها. والبعض الآخر ينظر إليها كمشروع إستراتيجي ينتهي بإعادة الحكم العسكري في ليبيا.

المشترك الرئيسي بين المشروعين -إذن- هو الارتباطات الخارجية، وذلك أهم أسباب فشلهما وتخبطهما في إخراج ليبيا من أزمتها الأمنية والسياسية والاقتصادية. فبسبب ذلك الارتباط أو الامتداد أو الالتزام الخارجي، فقد المشروعان قوة وحرية صناعة القرار، وفقدا أيضا الاستقلالية، في زحمة ملفات ثانوية (نسبيا) فرضتها بعثة الأمم المتحدة على المشهد الليبي.

المجلس الرئاسي وعملية الكرامة، وأجنحتهما، لا يستطيعان التحرك أو التقدم أو المبادرة أو إصدار القرارات دون أن يلتفتا إلى من دعمهم - من الخارج -إعلاميا وسياسيا وعسكريا وأمنيا. وهنا بيت القصيد. المشروعان  مكبلان، يفتقدان لحرية الحركة في أكثر القضايا الداخلية حساسية. لذلك لن يستطيعا إخراج ليبيا من أزمتها بل إن وجودهما واستمرارهما بهذه الصورة سيزيد من تفاقم الأزمة على جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية. زد على ذلك أن المرحلة التي تمر بها ليبيا (مرحلة ما بعد الثورة) لا يناسبها المشروعان. بل يناسبها مشروع وطني داخلي، خاصة وأن المرحلة في الواقع قد اختطفت وتحولت من "مرحلة ما بعد الثورة" أي مرحلة بناء، إلى "مرحلة انقلاب على الثورة" أي مرحلة حرب، ما زاد من فشل المجلس والكرامة.

الغائب -إذن- هو مشروع وطني داخلي متحرر من الارتباطات الخارجية، مشروع يضم جميع القوى السياسية الليبية (المدنية والعسكرية) التي تدعم قيام دولة مدنية، بكل إيجابيات الدولة المدنية (دولة القانون، دولة المؤسسات، حرية الرأي، التعددية السياسية، تبادل السلطة سلميا، فصل السلطات، إلخ).

وأكرر هنا، أن المشروع لابد أن يشمل جميع القوى السياسية الليبية التي لا تمانع في تأسيس دولة مدنية دون تهميش أو تجاهل أو تجاوز لأية فئة أو شريحة أو مجموعة، مهما كان أنتماؤها الفكري أو السياسي أو الحزبي أو الجهوي أو القبلي أو العرقي، وبصرف النظر عن التيار الذي تنتمي إليه، بما في ذلك الذين يؤمنون بالمشروعين الآخرين طالما انهم قبلوا بالدولة المدنية. فمن الإنصاف أن نذكر أن شريحة من أنصار المشروعين (من أعضاء البرلمان ومجلس الدولة وأعضاء من الأجسام السياسية والعسكرية التي تتصدر المشهد السياسي حاليا)، ليمكن استقطابها وضمها إلى المشروع الوطني.

ولا شك أن المشروع الغائب، أو المشروع الوطني الداخلي)، سيواجه عديد الصعوبات والعوائق والعراقيل. و يتمثل العائق الأول: في أن الأطراف التي طرحت مبادرات أو مشاريع أو مقترحات بعيدة عن تأثير وتدخل وتوجيه الخارج - هذه الأطراف - لا تعمل كفريق واحد، بل غاب عنها أحيانا حتى التعاون والاستشارة والتنسيق الجاد. فكل مجموعة تعمل بمعزل عن الأخرى، بالرغم من تطابق وتماثل وتقارب الأهداف الرئيسة لكل مجموعة أو مبادرة. وقد بلغت درجة التقارب مبلغا يمكن على ضوئه تحديد سقف أدنى من الأهداف تجتمع عليه كافة الأطراف.

ويتمثل العائق الثاني في تشتت القوى العسكرية أو الثوار أو حملة السلاح من الذين يؤمنون ببناء دولة مدنية بعيدة عن الارتباط الخارجي بكافة أشكاله، ما يحتم ضرورة جمعها أو تجميعها أو توحدها - مؤقتا على الأقل - تحت سقف أدني من المشتركات والأهداف، ريثما تؤسس الدولة المدنية.

أما العائق الثالث فيتمثل في أنصار المشروعين السابقين (الرئاسي والكرامة، مع الفارق بينهما) بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة ومخرجاتها وداعمي الكرامة (مصر والإمارات وغيرهم)، أنصار هذه التوجهات سيعملون - بكل تأكيد - على عرقلة البديل الوطني.

وسيكون من أشرس الشخصيات ضد المشروع الوطني أولئك الذين يزنون أو يقيسون أو يحللون كل مبادرة بمقدار تأثيرها على مناصبهم وصكوكهم ومكاسبهم ومواقعهم وطموحاتهم أو طموحات أحزابهم أو مناطقهم أو قبائلهم. فأغلب الذين يتحسسون من المشاريع الوطنية الداخلية، المتحررة من التوجيه الخارجي، هم في الغالب الذين يشعرون بأن كراسيهم أو مكاسبهم أو مصالحهم قد تهتز إذا أيدوا أو دعموا أو التحقوا ببدائل أخرى. هؤلاء لا يقيسون صلاحية أو عدم صلاحية البدائل بصلاحها أو عدم صلاحها للوطن، وهم في الواقع أصحاب مقولة "وين بديلك". لذلك – مرة أخرى – سيشكلون عائقا ثالثا.

ويتمثل العائق الرابع في إصرار أصحاب بعض المبادرات على عدم التنازل على أي بند من بنود مبادراتهم.

اما العائق الخامس فيتمثل في تردد أصحاب المبادرات الوطنية في وضع مبادراتهم حيز التنفيذ. فالجانب العملي مفقود. أصحاب أغلب المبادرات الداخلية الوطنية، يكتفون -غالبا - بالجزء النظري (إعداد المبادرة، الاجتهاد في بنودها، عرضها على آخرين، استشارة النخب، الإعلان عن المبادرة، دعوة الناس للالتحام بها، والالتفاف حولها، وتشجيعها، وتبنيها... إلخ)،  ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد، مع غياب الخطوات العملية التي تضع الجانب النظري حيز التنفيذ. المبادرات أو المقترحات أو المشاريع تحتاج إلى مؤسسات تترجمها إلى واقع عملي، عندها – وعندها فقط - نستطيع أن نطلب من الناس تبني المبادرات والانضمام إليها أو الالتفاف حولها، أو دعمها. البدائل متوفرة - إذن- لكنها تحتاج إلى تحويلها إلى واقع.

ومن جهة أخرى لا يجب أن يُفهم بأن المشروع المتحرر من الارتباط الخارجي يعني بالدرجة الأولى عدم التعاون مع "المجتمع الدولي" كدول ومؤسسات، خاصة فيما يجب التعاون فيه، كالمصالح المشتركة المشروعة، وبناء جسور متينة من العلاقات الاقتصادية والسياسية العادلة.

كذلك لا يجب أن يُفهم أن تأسيس قوى عسكرية تضم الذين يؤمنون بالبديل الوطني الداخلي، يعني إعلان الحرب أو التصادم أو القتال مع قوى أخرى تدعم المشروعين السابقين. بل إن المراد من تجميع القوى  السياسية والعسكرية المدعمة للمشروع الداخلي هو خلق توازن وإيجاد موقع قدم والمحافظة عليه في المشهد السياسي.

العوائق أيضا، لا يجب أن تكون مصدر إحباط أو تردد أو يأس بل من الحكمة توقعها والتعامل معها ومعالجتها بموضوعية. فالعوائق والعراقيل والصعوبات وجدت "لنزيحها" من الطريق لا "لتوقفنا" عن تحقيق أهدافنا. بل إن مواجهة العوائق والعراقيل والصعوبات، والتعامل معها، من سنن الكون والتنافس وطبائع الاشياء.

وقد يتسأل البعض قائلا، لماذا لا نكتفي بمشروع البعثة الأممية طالما أنه يهدف (نظريا على الأقل) إلى  تأسيس دولة مدنية؟ والفارق بين أن نؤسس دولتنا المدنية بمشروع وطني خالٍ من الرعاية أو الوساطة أو الارتباط بالخارج، ومشروع وطني ذي ارتباط خارجي، هي الأولويات. فالمشروع الوطني ستكون أزمة  المواطن والوطن على قمة أولوياته، بينما ستكون لبعثة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المجتمع  الدولي أولويات أخرى.

وللأسف فإن أولويات المجتمع الدولي لم ولن تصب في مصلحة ليبيا، بل إن الفشل في تبني الأولويات الوطنية هي التي أدخلت البلاد في أزماتها حتى وصلنا إلى هذا النفق المظلم المغلق. الأولويات - اذن- تشكل فارقا كبيرا، بل فارقا مصيريا.

وهكذا.. على القوى الوطنية بمختلف فئاتها وانتماءاتها والتي استشعرت خطورة الأزمة - أن تتجمع حول "حد أدنى" من الأهداف المشتركة (ضمان دولة مدنية على الأقل). وعلى هذه القوى أيضا، أن تتوقع العراقيل وأن تتعامل معها، وأن تبادر فتنطلق بإرادة  صلبة ودون تردد (فإذا عزمت فتوكل). وعلى هذه القوى أيضا، عليها أن تترجم مبادراتها إلى واقع عملي، ولو ببداية بسيطة متواضعة، وأن تفرض إرادتها على أرض الواقع، وبذلك سنضمن بإذن الله، تأسيس دولة مدنية، ونضمن بالتالي إبعاد شبح عودة العسكر، ونضمن – أيضا الاهتمام بأولويات المواطن والوطن، خاصة وأن الكتلة التي ترفض حكم العسكر، أكثر عدة وعتادا وأقرب لطموحات الليبيين وأقوى سياسيا وعسكريا.  والله ولي التوفيق.

د. فتحي الفاضلي
طرابلس 17 رمضان 1438هـ

كلمات مفاتيح : مقالات ليبيا المستقبل،
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع