بسم الله الرحمن الرحيم {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين} البقرة-251
يقتضي التعامل مع المفاهيم الفكرية السائدة اليوم في عالم السياسة، تحليل مضامينها، واستقراء أبعادها، واستشراف تداعياتها ومآلاتها، ولعل من أبرز تلك المفاهيم مفهوم "صراع الحضارات"، ذاك الصراع الذي أفرزه تباين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الأمم، وما نتج عنه من تدافع حتمي، وما صاحب ذلك من أثمان باهظة لتلك الغلبة القسرية. وقد ظهر هذا المفهوم في شكله النظري المعاصر ضمن محاولة صامويل هنتنغتون1 سنة 1993م تحديد معنى الصراع الحضاري، وتوصيف مدلوله وتعقب مساراته، وإظهار أوجهه وتأصيل جذوره، وما استتبع ذلك من تأطير لأبعاده، وقد تنبأ هنتنغتون بأن الصراعات ما بعد الحرب الباردة، التي دارت بين الرأسمالية والشيوعية، لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين الأمم، وأن النزاع القادم سيتخذ شكلاً آخر وسيكون بين الحضارات وما تحمله من عقائد وممارسات وثقافات مختلفة، وأشار في سياق تحليله إلى أن "الصدوع الثقافية" ستكون بؤرة الحروب القادمة، وأن الصراع في المستقبل القريب سيكون بين "الغرب والدول ذات الأغلبية المسلمة"، داعياً الغرب لتقوية جبهته الداخلية بزيادة التحالف والتعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومحاولة ضم أميركا اللاتينية واليابان.
ولكي يستقيم الفهم، فالحضارة هيَ تلك الجُهود البشرية المبذولة لخدمة الإنسانية وتقديم الأفضل لها، وهيَ بمثابة قالب تمتزج وتتلاقح وتنصهر فيه ثقافات الجماعات، لتشكل خصائص الحضارة، وتُرسي القيم والمبادئ العامة التي ترتكز عليها، وتعكس التراكم الفكري والابداع الإنساني في أسمى صوره. والصراع الحضاري من منظور فلسفي يمكن أن يكون صراعاً ضمن الحضارة الواحدة لدرء المفاسد وجلب المنافع، أو أن يمتد ليصبح صراعاً أو تدافعاً ما بين الحضارات من أجل أن تستقيم الحياة البشرية وتنمو روافدها وتنبعث مقتضيات استقرارها، والشواهد على ذلك عديدة، فالصراع الفكري الفلسفي الذي نشب إبّان العصر اليوناني ودار حول تعدد الألهة، واحتدم بين دوافع الخير وأسباب الشر، وتمثل أيضاً في صراع الإنسان عند محاولته تطويع الطبيعة وفهم علاقته بها، قد هيمن على الفكر اليوناني في جوانبه الدينية والفلسفية والأدبية، وصبغ بصورة إيجابية أوجه وأشكال الفنون ومظاهر العمران السائدة في ذاك العصر، وبالمثل فقد أثّر مفهوم الصراع على الفكر الروماني وتجسد في تطورمناحي العمل التشريعي والسياسي، وانعكس في إزدهار جوانب الحياة المدنية.
وقد تجلى الصراع في أوضح صوره في أوروبا إبّان عصر التنوير2، ما بين نخب المفكرين والفلاسفة والعلماء وما بين الكنيسة وسطوتها الدينية، وقاد إلى تَحرّر المجتمع من الهيمنة الدينية الممزوجة بالخرافات والموسومة بالهرطقة، وساعد على الانطلاق نحو آفاق العلوم ورحاب المعرفة. وعلى المستوى الفكري كانت الرؤى التي أحدثت بالغ الأثر في المجتمعات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين، نابعة من منطلق الصراع والتدافع، فالفكر الرأسمالي انطلق من الصراع ضد تقييد رأس المال وتكبيل حرية السوق، والفكر الشيوعي قام على مبدأ الصراع ضد الطبقة الإقطاعية وممارساتها الانتهازية، والحركة النازية وأن اتسمت مظاهرها بالعنصرية والتعالي والتشدد ضد الأعراق وقادت إلى العنف واشعلت الحروب، فإنها انطلقت في جوهرها من مفهوم التدافع الحتمي لإخراج الاقتصاد الألماني من كبوته، ولتعزيز الشعور بالانتماء الوطني عند عامة الشعب بعدما أحبطته هزيمة الحرب العالمية الأولى. أما فيما يتعلق بالعالم الإسلامي، فإن الصراع الفكري قد اتخذ أشكالاً عدة، فهو محتدم ما بين المذاهب والطوائف الدينية، وما بين التيارات الدنيوية والدينية، و مُستعر من جهة ثانية ما بين التيارات المدنية وحكم العسكر، وما بين الانقلابيين ودعاة الديقراطية.
بَيْدَ أنَّ الصراعات التي دارت ما بين الحضارات عبر التاريخ، ومنها الحروب الطويلة المتعددة التي نشبت بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية، ودامت طيلة قرون عديدة، وحروب العرب مع الإمبراطورية البيزنطية، كانت في مجملها قائمة على تباين الأعراق واختلاف القوميات، وبدافع الهيمنة وتوسعة الرقعة الجغرافية وحكم بلاد ما بين النهرين، إلى أن ظهر الإسلام وتَجلّت قيمه، فتبدلت دوافع الصراع لتستند في مضمونها على التدافع من أجل نشر المعتقدات الدينية والقيم الإنسانية، وأصبح الجهاد والدعوة بالحسنى سبيلاً لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل -125، وتلاقحت وامتزجت بذلك مفاهيم وقيم الدين الإسلامي مع ثقافات الأمم والحضارات الأخرى، وانتجت حضارة راقية، منحت العالم قواعد راسخة ومبادئ عظيمة وقيم أصيلة قدّمت النفع للبشرية، وأسهمت في رفع مكانة الأمم، عبر منظومة القيم التي تستمدّ أصولها من التشريع الإلهي، ونفعت بذلك الناس في دينهم ودنياهم، وقد شملت الحضارة الإسلامية كافة مناحي الحياة بمادياتها وقيمها الدينية والمعنوية، وأثّرت في العالم بشتى ضروب الرقي والإزدهار في كافة الجوانب السياسية والتشريعية والعلمية والأدبية، ناهيك عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقاقية والعمرانية.
وإذا ما تأملنا الصراع العالمي الدائر اليوم، لوجدنا أنه ناتج في ظاهره من منطلق الهيمنة الإقليمية والدولية، بغية تحقيق المصالح السياسية والاستحواذ على مناحي الحياة، وفي جذوره منبثق من بواعث التدافع الفكري العقائدي القائم ما بين الحضارات، الذي اتّخذ صوراً عديدة منها:
• نظام العولمة 3 الذي تسعى الولايات المتحدة الإمريكية لفرضه عبر ثورة الاتصالات، ومن خلال مجموعة من التدابير والإجراءات والاتفاقيات التي تستند إلى الشرعية الدولية، يهدف في محتواه إلى تطويع العالم وإخضاعه لإملاءاتها وسياساتها الاستعمارية، والتحكم في موارده الاقتصادية، ويرمي إلى بث الفكر العلماني الذي يُقدّس الحياة الدنيوية بعيداً عن اعتبارات الدين، ونشر ثقافة الرأسمالية التي تقوم على تنمية الملكية الخاصة، وعلى تعزيز التفاوت الصارخ في المداخيل، وما يتعلق بذلك من أرباح ربوية فاحشة وانتهازية مطلقة، ناهيك عن الأنانية المفرطة والمنافسة المسعورة، كل ذلك يُعَدّ انعكاساً جلياً لبواعث صراع الحضارات.
• الصراع الدائر ما بين إيران من جهة ودول الخليج العربي من جهة ثانية، وما يرتبط به من حروب مندلعة في العراق وأرض الشام، وإن كان ظاهره صراعاً مذهبياً بين الشيعة والسنة ضمن نطاق الأمة الإسلامية، فإن الجذور التاريخية للصراع العربي-الفارسي تُلقي بظلالها على هذا النزاع، الذي يدفع لتمكين إيران وأشياعها من الهيمنة وإحكام الطوق الشيعي حول منطقة الخليج العربي على امتداد الهلال المحيط بها، الذي يشمل اليمن - إيران - العراق - سوريا - لبنان، وحصار السعودية والدول الخليجية السنية من كل الاتجاهات، وإخضاعها للتسلط الديني والفكري والثقافي وللتهديد والابتزاز السياسي والاقتصادي.
• الحرب على الإرهاب وفقاً للمنظور الغربي، تَحَوّل إلى حرب من أجل التسلط والهيمنة وانتهاك سيادة الدول، وفرض ذاك المنظور قسراً وظلماً، بالرغم من تباين المواقف الدولية حول تعريف الإرهاب، وتحديد وسائل محاربته، وسبل القضاء على مصادره، وكيفية معالجة دوافعه. وأضحى ذاك المنظور الأحادي الجانب، الذي انعكس في ثنائية معي أو ضدي أو في متلازمة الخير والشر، سبيلاً للإطاحة بالأنظمة السياسية للدول، وأداة لوأد ثورات الشعوب ضد جلاديها، ولإذكاء جذوة الحروب بين الأمم بغية خلق واقع جديد يخدم مصالح الدول الغربية، ويُمكّنها من إحتواء الأزمات السياسية والمالية والاجتماعية التي تعصف بها.
• صناعة التطرف الذي ارتبطت به دوائر الاستخبارات بشكل سري في بعض الدول العظمى، ووظفته في استدراج المتطرفين أو دفعهم لتَمرّكز بمناطق النزاعات والقيام بالعمليات الإرهابية، يهدف في أساسه إلى تشويه الإسلام والمسلمين أينما وجدوا، والتضيق عليهم وتقييد حرياتهم، وإتاحة الفرصة للتدخل في شئونهم بذريعة محاربة الإرهاب، وإغراقهم في فوضى الحروب والصراعات، ومن ثم إعاقة تقدمهم والحيلولة دون قيامهم بنهضة إسلامية ثانية، تكون نِدّاً للحضارة الغربية المعاصرة، فتُعِيد للمسلمين هيبتهم ومكانتهم ومجدهم التليد، وتُمكّنهم من نشر دينهم، وبعث قيمه السامية بين شعوب الأرض قاطبة.
ختاماً... إن ما يحكم نتائج الصراع والتدافع البشري بالعموم، ويقود لغلبة الخير على الشر، ولسيادة الحق على الباطل، مرهون في واقع الأمر بصحوة ضمير الأمة، وبإعمال الفكر وتحرره من سطوة الجهل والتخلف، وبتأصل الوعي والقيم والأخلاق في وجدان الشعوب، وبتَجَذّر مَبْعث الحضارة ورسوخه على مر الأزمان.
حفظ الله ليبيا.
الهوامش:
(1) صامويل فيليبس هنتنغتون: (Samuel Phillips Huntington) عالم ومفكر وسياسي أميركي، بروفسور في جامعة هارفارد لأكثر من 30 عاماً، عمل في عدة مجالات منبثقة من العلوم السياسية وإدارة الأعمال، تصفه جامعة هارفارد "بمعلم العلماء" في مجالات متعددة وعلى نطاق واسع، وأحد أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين. بالإضافة لعمله في هارفارد، كان هنتنغتون مستشاراً أمنياً في إدارة الرئيس جيمي كارتر، وشارك في تأسيس مجلة فورين بوليسي، وترأس عدة مراكز بحثية. كان ديمقراطياً وعمل مستشاراً لهوبرت همفري (نائب الرئيس ليندون جونسون). توفي في24 ديسمبر 2008 عن عمر ناهز 81 عاماً.
(2) عصر التنوير :(Enlightment Age)تيار سياسي ثقافي اجتماعي ساد أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة من المثقفين والمفكرين والفلاسفة، تجسدت أفكار عصر التنوير في ثلاث أسس: العقل والطبيعة والتقدم، وتكوّن في مجموعها الفلسفة والأخلاق والعلم، وكان شعاره العلم للجميع. شكل هذا العصر بداية مرحلة جديدة في تاريخ أوروبا، لما تمّ فيه من تغيير جذري في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والمادية نتيجة انهيار أسس المجتمع الأوربي القديم وقيمه البالية، وظهور تحولات جديدة في الإنتاج والاقتصاد، وفي الحقوق المدنية وشؤون الدولة، وفي العلوم والفنون والعادات والأخلاق.
(3) نظام العولمة: نظام يدعو في ظاهره لرفع الحواجز والقيود، التي تقلل من تدفق المعلومات ومن حركة الأموال والاستثمارات والشركات بين دول العالم، لكي تتداخل وتتفاعل العمليات الاقتصادية والعلاقات الإنسانية بين المجتمعات. استغلت الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل دعم وتسويق نظام العولمة، الذي تسعى لفرضه كنظام عالمي، كلاً من منظمة التجارة العالمية (اتفاقيات الجات وحرية التجارة) والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.