حكايته عجيبة…
• هكذا يصفها وهو يخوض التجربة في التعامل مع الكلمة التي قرر اتخاذها حرفة له أو هي فرضت ذاتها مسلكا ووسيلة عمل في مجال حياته... هو يريد كلمته تضيء وأن تقول ما يريد قوله... وعنده المتسع من الزمن إلى أن يحين وقت نضجها.
• ولم يكن ذلك...- جميعه الذي قطع شوطا كبيرا في الخوض فيه -... لم يكن ليغطي الفراغ الذي لا يزال يشعر به ويتمثله مستقرا في داخله،... ويظل البحث قائما ويظل عدم الاستقرار، ويظل ذلك الفراغ يلاحقه، ثم يقول: ".. وعندما قرأت مرة أن الكلمات تتغذى على التجارب، انطلقت كالمجنون أجوب الأرض والأحداث، وأبحث عن التجارب في شوارع العالم وفي الأزقة، وفي سفن الصيد، والجامعات عبر آلاف الأميال الموجعة".[1]
• ثلاثة مصادر لتحقيق المعرفة بالكلمة، والإحاطة بأسرارها، وتملك مقاليدها كي يتمكن من التعبير عما يتحرك ويتردد متفاعلا داخل نفسه.. أولها الدراسة المنهجية (الأكاديمية) المقررة في قوالبها في مجال علوم اللغة وآدابها، وقد قطع شوطا كبيرا في اجتياز معظم مراحلها متفوقا، وها هو الآن في جامعة ميونخ بألمانيا مبعوثا من الجامعة الليبية ومعيدا بها لاستكمال المراحل العليا للتخصص والعودة للتدريس فيها.
• وها نحن نجده يتحدث إلى صديقه محمد الفيتوري في أولى رسائله التي يبعث بها إليه من ألمانيا عقب وصوله فيخبره عن تقدمه في الدراسة وأنه "يصنع أكثر من تفوق"... والسبب "أن هناك فتيات كثيرات وجميلات جدا... وأنا لا أحب أن يتقدمني أحد أمام فتاة، والحقيقة أنني أدرس كثيرا، أما الآخرون فيذهبون إلى الرقص أكثر". وضع تقليدي وصورة واضحة المعالم لطالب ليبي من بنغازي وربما يمكن تعميمها على الطالب العربي عامة في بداية تعامله مع جامعة أوربية في مرحلة متقدمة.
• ذلك كان حاله كما وصفه داخل الجامعة.. غير أننا نراه وفي الرسالة الموجهة إلى محمد الفيتوري ذاتها يحدثه عن نفوره من المجتمع الألماني، وعدم ارتياحه للتعامل معه.. "... أما أنا فإنني بخير، عنيد كما عهدتني، أسير بين البشر الأبيض الجامد، وأنظر في الأرض مباشرة.. وأحمل لهم جميعا كثيرا من الازدراء..". وفي هذه الرسالة يخبر الفيتوري ببعض من التصرفات الاستفزازية التي كان يقوم بها تجاه من يتعامل معهم من الألمان "حتى يشعرهم بالحقارة.. والازدراء الذي لا نهاية له".[2]
• وفي رسالة مبكرة من وقت وجوده في ألمانيا موجهة إلى صديقه عبد القادر البعباع يشير إلى أنه يدرس جيدا، ويخبره فيها عن الألمان (المرعبين الذين يشبهون التماثيل ولا يملكون قلوبا على الإطلاق). ويتحدث عن النظام الدقيق الذي يُسيـِّر حياتهم.. ويقدم بعضا مما هو غير مألوف لدينا من الصيغ السلوكية الممارسة عندهم... ولا نلمس أيضا في هذه الرسالة رضا أو انبهارا، أو تنم عن الارتياح لوجوده في تلك الغربة،.. وها هو يحن إلى سوق الحشيش الذي يصفه "بالسوق الرائع". وإلى الأصدقاء الذين يعدد ذكر أسمائهم. وقد يكون في تقديم هذه الصورة التي وصف بها وجوده في ألمانيا ما يوضح ما هو عليه حاله هناك يقول في هذه الرسالة: "أنا هنا مثل مسجون حقير في سجن وسخ".[3]
يتبع...
سالم قنيبر
بنغازي 3 يونيو 2017
راجع الحلقات بـ (ارشيف الكاتب).
المراجع:
1- طرق مغطاة بالثلج - هذه تجربتي أنا - ص 91-94.
2- أنظر نص الرسالة المؤرخة 7 فبراير 1963. في نوارس الشوق والغربة ص 177-183.
3- رسالة إلى عبد القادر البعباع بتاريخ 5 فبراير 1963. المصدر السابق، ص 187-190.