اثبت ما حدث في تركيا في الايام القليلة الماضية، ان الانقلابات العسكرية، خاصة في الدول التي تنتهج مسارا ديمقراطيا، بات عملة فاسدة، غير قابلة للصرف في العصر الحديث، ولا نستطيع التكهن بفداحة الثمن الذي كانت ستدفعه تركيا، لو نجح الانقلاب، وهو لم يكن لينجح الا بنهر غزير من الدماء، ولكن هناك الآن فاتورة مرعبة تدفعها البلاد، وستواصل دفعها لاشهر طويلة قادمة، حتى بعد هذا الفشل، ويكفي ان نقول ان سقوط الضحايا الابرياء مازال مستمرا نتيجة هذا الانقلاب، فهناك اشتباكات في بعض المواقع وقتلى مدنيين وعسكرين بسبب هذه الانقلاب، وكانت الاخبار قد نقلت ان قرابة 300 قتيل قد سقطوا، وهناك ضحايا سيسقطون بسبب عمليات الانتقام، وعمليات الاعدام التي ستطال الانقلابيين، كما افاد الرئيس التركي بانه سيعيد عقوبة الاعدام، ويجري الان القبض على ضباط من الجيش، ومن الامن وقضاة وموظفين كبار في الدولة، وصل عددهم حتى الآن ستة الاف شخص، وسوف تنال عمليات الاعتقال آلافا اخرين، كما ان هناك عمليات تطهير للاجهزة، من الكوادر التي تنتمي لقوى لا تدين بالطاعة للجماعة الحاكمة، سوف تنال عشرات الالاف، ومعنى ذلك ان الدولة التركية سوف تحرم من خدمات هؤلاء الناس، ومؤهلاتهم وقدراتهم، بعد ان انفقت الأموال الطائلة، على تعليمهم وتأهيلهم، واوصلتهم الى هذا المستوى من التعليم والخبرة، والاف العائلات سوف تفقد مصدر رزقها، بسبب هذه التصفيات وهذه الحملات المكثفة اعتقالا وتطهيرا وعزلا وانتقاما. وهو ثمن سيكون ضئيلا بجوار ثمن اكبر، هو الانقسام الذي سيحصل في الدولة ومؤسساتها المدنية والامنية والعسكرية والقضائية، وسيطال النسيج الاجتماعي بالعطب والتمزق.
وادانتنا لهذا الانقلاب، لا تعني تبرئة الرئيس اوردوغان شخصيا من المسئولية، فالطريقة التي ادار بها الدولة، خاصة في مراحل حكمه الاخيرة، خلقت حالة سخط واستفزاز، واثارت فئات مدنية، وعسكرية ضده، بسبب ما اعتمده من اساليب سلطانية فرمانية تذكر بعصر سلاطين العثمانيين.
انني انتمي الى جزء من الرأي العام العربي، لا يحمل الا مشاعر السخط للحاكم التركي، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، التي تدخل فيها بطريقة انتهازية ميكافيللية، وارتدى عمامة سلطان في الباب العالي، يريد ان يعيد انتاج دولة الخلافة الاسلامية، رغم انه يدير دولة علمانية، لا علاقة لها بالاسلام السياسي، ومع ذلك يدفع بجماعات اسلامية عربية، الى الحكم سعيا وراء اوهام الهيمنة والنفوذ، بما في ذلك شبهة علاقة مع داعش، والتربح منها، وشراء النفط المنهوب من ثروات الشعب السوري والشعب العراقي، بتراب الفلوس، ومع ذلك لم افرح بهذا الانقلاب الذي استهدف الاطاحة به، ولم اكن لافرح لو نجح، كما لم يفرحني فشله، فهو كارثة في الحالتين.
واقول ان اوردوغان حتى وهو يخرج ناجيا من الانقلاب، ومنتصرا على الانقلابيين، فانه سيكون خاسرا في نهاية المطاف، وستنعكس نتائج هذا الانقلاب سلبا على حكمه، وان الجماهير التي خرجت تناصره على الانقلابيين، هي التي ستخرج في الانتخابات للتصويت ضده، لان تركيا سوف تحتاج في المدى القريب، الى حاكم يعالج الجراح ولا يزيدها نزفا.
وانتقل الى دعاوى الحكومة في تركيا، التي تعلق جريمة الانقلاب في عنق السيد فتح الله غولن، قبل اي تحقيق ودون اثبات ولا برهان، واقول انني زرت في واشنطن مركزا يتبع الرجل، وافرحني المكان، اناقة وجمالا ولمسات حضارية ابداعية، تشير الى هوية المكان الاسلامية، كما افرحني فكرا وحوارا ومناخا ثقافيا راقيا، لمفكر يقدم صورة عصرية مشرقة للدين الاسلامي، واسعدني بعد الزيارة ومقابلة بعض المناصرين لفكره، ان اطالع مجلدا يحمل افكار الرجل، فاجده يقدم اسلاما وسطيا معتدلا، يستوعب روح زماننا، متحررا من القوالب الجامدة التي استهلكت نفسها مع كر الايام، ولحقها الصدأ، وعلمت ان لافكاره اتباعا ومعجبين خاصة في بلاده تركيا، وانه لا يقحم الدين في السياسة ولا يدعو للحاكمية التي يدعو لها الفكر الاخواني واتباع سيد قطب، ولا من خرج من عبائة الاخوان، من جماعات تكفيرية متطرفة، ولا يقول ان الاسلام هو الحل على مستوى الحكم، ولكنه الحل على مستوى التعبئة الروحية، وسلام الوجدان، وطمأنينة النفوس، واثراءها بمحبة الله والناس.
انني اصدق الرجل وهو يظهر في الاعلام، لينفي ان تكون له علاقة بتدبير الانقلاب، رغم خلافه الواضح مع السيد اوردوغان، ولكن ان يكون هناك بين انصار فكره، اناس يسخطون على اوردوغان واساليبه الميكافيللية، فهذا وارد، ولكن تحميله المسئولية، لا يختلف عمن يأتي لجماعة تؤمن بافكار الحاكم بامره الله او افكار هيلاسيلاسي، وتقوم بعمل ضد احد الحكام، فيذهب للبحث عن قبر هيلاسيلاسي، اوعن المناطق المجهولة التي ردمت فيها عظام الحاكم بامر الله، ليحاكمهما ويحملهما جريمة ما حدث.
د. احمد ابراهيم الفقيه