لم يتشكل معنى القومية العربية بوضوح لدى الليبيين ولم يتعرفوا على قضايا العروبة ولم يلاحظ عليهم اْى تاْثر بالفكر القومى طوال فترة تاريخية طويلة خلال الوجود العثمانى فى ليبيا. كانوا بحكم الولاء لدولة الخلافة فى اسطنبول يميلون كل الميل الى الشعور الدينى فى الواقع اْكثر من الحماس للشعور القومى الذى بدى فى تلك الايام والظروف ضعيفا داخل البلاد قياسا بولايات اخرى عربية. اْرتبطوا بقوة بالاحساس الاسلامى الطاغى بحكم العقيدة ووحدة المذهب وعدم وجود طوائف اْو ملل اْخرى فى البلاد.
فى تلك الفترة العثمانية وفد الى ليبيا الكثير من العرب. عينوا موظفين فى متصرفيات البلاد فى طرابلس وبنغازى ودرنة والخمس.. وغيرها سواء كانوا مدنيين او عسكريين وكذا المزيد من رجال الدين الذين كانوا اْحنافا. وكانت مرزق عاصمة فزان منفى للعصاة العرب من مختلف المناطق. كان الليبيون ينظرون الى هؤلاء العرب باْنهم اْخوة فى الاسلام وليس العروبة ويستظلون معا براية الاستانة. ولم يلاحظ على هؤلاء الموظفين العرب القيام باْية دعاية اْو حماسة للمشروع القومى العربى الذى نهض بعضه من خلال جمعية بيروت السرية ولجنة الاصلاح وجمعية الاخاء العربى والمنتدى العربى وجمعية العربية الفتاة والجمعية القحطانية.. وغيرها. مواجهة للتتريك والنزعة العثمانية.
بعض هذه الانشطة اْو كلها تكون فى تركيا عبر الشباب العرب الذى يدرس فى المدارس الحربية هناك.. فى مقدمتهم عزيز المصرى الذى سياْتى لاحقا الى ليبيا ليشارك فى المقاومة ضد الغزو الايطالى.. ثم يترك الجبهة فى ظروف سيئة واْعتبر خائنا من المجاهدين لقضيتهم!.
وفى جانب اْخر عين بعض من الليبيين موظفين فى الولايات العثمانية فى الشام واليمن (حسين بسيكرى وحسين كويرى وبشير السعداوى على سبيل المثال) ولم يلاحظ على اْى منهم اْى تاْثر بالمد القومى الذى اْرتفع فى تلك الارجاء كما التقى النواب الليبييون عن طرابلس وبنغازى فى مجلس المبعوثان مع الكثير من نواب الولايات العثمانية العربية ولم يحدث اْى تقارب اْو تاْثر واضح بالفكرة العربية التى شرع لاحقا ينظر له جملة من المفكرين العرب من مثل ساطع الحصرى وميشيل عفلق وزكى الارسوزى وقسطنطين زريق.. وغيرهم.
وحين وقعت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين منذ مائة عام (1916) ضد الاتراك لم يلاحظ اْى صدى لها فى ليبيا. كان الليبييون يقاتلون بقيادة احمد الشريف نائب الخليفة العثمانى فى عموم القارة الافريقية الانجليز على الحدود الشرقية باْستدراج اْو خديعة من بعض الضباط الاتراك والعرب. وقد شارك اْيضا الكثير من العرب فى مرحلة القتال مع الليبيين ضد الانجليز والطليان بحكم وجودهم مع العثمانيين اْو تطوعهم على مستوى خاص فى مراحل لاحقة.. (محمد صالح حرب ومصطفى عون الجزائرى وعبدالرحمن عزام وعلى اليمنى وعصمان الشامى ومحمود الشامى.. وغيرهم) لكن الشعار الذى جمعهم وتحمسوا له هو الشعور الدينى اكثر من اْى شى اخر. الاخوة فى العقيدة وحدت رؤيتهم اتجاه القضية الليبية والاخلاص للخليفة الذى دعا الى الجهاد. وكانت الصحف العربية فى ديار الشام وتونس ومصر وفلسطين تنشط بلا توقف فى نقل اْخبار المقاومة الباسلة التى اْبداها الليبيون والحديث باْسهاب عن الماْسى والكوارث المحزنة التى يرتكبها جند الاحتلال الايطالى على اْمتداد ليبيا فيما هاجر العديد من الليبيين نتيجة لاْتساع البطش اْو انتهاء المقاومة باْستشهاد عمر المختار ثم خليفته يوسف بورحيل الى تونس ومصر وسوريا والاردن وفلسطين ولم يلاحظ عليهم اْيضا اْى تاْثر بالفكر القومى اْو اْنتماء لاْية اْحزاب اْو منظمات قومية فى تلك الدول تدعو الي الفكرة العربية وتطالب بالوحدة العربية. كانت الفكرة اْيضا رغم مرور الاْعوام فى بدايتها وماتزال محل نقاش وجدال بين المنظرين والمفكرين ومن يخالفهم الراْى. لم تتبلور الفكرة بوضوح فى اْذهان الكثيرين خاصة عامة الناس الذين يعانون الجهل والمرض والتخلف وسطوة الاجنبى.
لعل الشعور القومى والارتباط بوحدة اللغة والدين والدم والمصير كما كانت تشير المناهج الدراسية بداْ يستقر فى نفوس بعض الليبيين مع الوعى بقضية فلسطين وتنامى الوجود اليهودى فترة الانتداب البريطانى هناك. كان ثمة دعوة قديمة اْقتراحت اْنشاء وطن قومى لليهود فى برقة بصدور الكتاب الازرق عام 1908 ولم يتحقق (وربما سيظل مفتوحا.. من يدرى!!). شارك مجموعة من الليبيين المهاجرين فى مصر فى ثورة 1936 واْعتقل بعض اْفرادها وحكموا بالاشغال الشاقة فى صرفند وعسقلان واْفرج عنهم عام 1939 وعادوا للاقامة فى مصر ليسهموا فى تاْسيس الجيش السنوسى عام 1940.
حين اْقترب العام 1948. كان مخاض الاربعينيات قويا من الناحية السياسية داخل ليبيا. عاد الكثير من المهجر. تشكلت الجماعات السياسية. صدرت الصحف الوطنية. اْتسع الجدل والنقاش حول مصير البلاد المرتقب. كان ثمة تدخلات عربية لم تبتعد عن المزاج والهوى الشخصى.. وفشلت فى كل الاحوال. وخلال ذلك تردد بقوة موضوع فلسطين. قامت دولة اسرائيل.. هب الليبييون للتطوع فى القتال لتحرير فلسطين وشاركوا فى المعارك هناك ومات العديد منهم وكان نصيب الجيوش العربية الفشل والهزيمة. وفى كل الاحوال كان اْنقاذ المسجد الاقصى والدفاع عنه هو الشعار الطاغى اْيضا رغم الحماس القومى الكبير. وخلال تلك الفترة ظل النشطاء السياسيون الذين يعبئون عمليات التطوع للحرب فى فلسطين يطالبون بالاْنضمام الى الجامعة العربية وحدثت اْعتداءات على اليهود المحليين وطردهم من البلاد ثاْرا للهزيمة وضياع فلسطين!! كما لوحظ اْيضا وجود تلك النداءات والمطالبات فى بعض بنود برامج الجماعات السياسية على اْمتداد البلاد. شعور قومى يمتلىْ عاطفة بداْ يتلمس طريقه نحو العروبة.
بعد الاستقلال بعامين انضمت ليبيا الى الجامعة العربية وصارت عضوا رسميا ونشاْ عن ذلك المزيد من اقامة العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع الاقطار العربية واْفتتحت السفارات والقنصليات وكذا العكس وتبودلت المصالح التجارية والثقافية وكافة اْنواع العلاقات وتسهيل تنقل الرعايا فيما بينها. واْسهمت ليبيا فى كل نشاطات الجامعة ووقعت على مواثيقها ولم تتخلف عن اجتماعاتها ومؤتمراتها فى كل المستويات. واْصبحت ليبيا رسميا تحث الخطى نحو العروبة واْمجادها. وحين تم تعديل الدستور الليبى عام 1963 تضمن نصا جديدا مفاده فى مادته الثالثة باْن: (المملكة الليبية جزء من الوطن العربى وقسم من القارة الافريقية).
فى 23 يوليو 1952 وقعت حركة الجيش بقيادة مجموعة من الضباط فى مصر واْصبحت تعرف بثورة 23 يوليو فى فترة موالية. واْنطلقت اذاعة صوت العرب من القاهرة وشرعت فى الدعوة للثورة والوحدة العربية من المحيط الى الخليج. واْضحى لها تاْثير كبير وواضح على امتداد المنطقة وفى نفوس المواطنين ببرامجها واْحاديثها وتعليقاتها الشهيرة. ثم المقاومة الوطنية فى تونس ضد فرنسا واندلاع ثورة نوفمبر 1954 فى الجزائر.. وتاْميم قناة السويس والاعتداء الثلاثى عام 1956 وثورة العراق 1958. وغير ذلك من اْحداث وتقلبات سريعة كان من الطبيعى اْن ينبهر بها الكثير من الليبيين الذين يشعرون باْنهم يعيشون حالة من الفراغ الفكرى والعاطفى والسياسى.
وبهذا الشكل كان اْغلب اْفراد الشعب يعيش بعقله ووجدانه خارج بلاده واستلب تماما نتيجة لهذا الخطاب القومى عالى الصوت والتاْثير.. الا فيما ندر من البعض من المتعلمين والمثقفين الذين راْوا اْن البداية لاْية اْنطلاقة نحو التقدم يجب اْن تكون من الداخل وليست من الخارج.
مع ارتفاع المد القومى الذى اْستند على خلفية التاريخ الواحد والمصير المشترك والامة الواحدة وماصاحبه من دعاية وتوجيه واْستغلالا لذلك الفراغ الذى يسود المنطقة العربية.. كان الكثير من الطلبة الليبيين يدرسون فى مصر وشاهد اْغلبهم عن قرب العديد من التحولات والتبدلات والتوجهات الفكرية فى المجتمع المصرى الذى كان يعج بالاقطاع وطبقات الباشاوية والبكوية والافندية ودعوات الفرعونية ولاحظوا التغير الكبير الذى بداْ يحدث سريعا وبقوة واْمتلاْوا دهشة واعجابا بالضباط وبدلاتهم وكاريزماتهم وبالنشاط الثقافى والفكرى الحاصل فى مصر والافلام واْخبار الفن.. والوعود بتحرير فلسطين. واْن مصر التى كانت (فرعونية - ملكية رجعية) اضحت قلب العروبة النابض ومعقلها الوحيد وكان لابد اْن يتسع هذا التاْثر ويحدث فى عقول الشباب الليبى الدارس فى الجامعات والمدارس هناك اْو لدى اولئك الذين يقومون بقضاء اجازاتهم فى مصر واْصبح الليبيين بهذا المستوى فى غالبهم (قوميون) بالفطره نتيجة لهذا التاْثر القوى. لم تكن هناك احزاب اْو جماعات اْو منظمات تاْسست لتغذية المزيد من هذا الاحساس اْو لتنظيم كوادر اْو قواعد قومية لها بين الجماهير فى الداخل.
..... يتبع
سالم الكبتي