هناك ثنائيات مكررة فى احاديثنا ولكنى احسبها جزء من الكلام الفضفاض! مثل الحق والباطل، الخير والشر، وغير ذلك الكثير.. ولكنى احببت ان اذهب الى ثنائيات احسبها محددة المعنى وربما ترتقى الى مواصفة جودة فيما يتعلق بالحياة وبالحكم الرشيد.. وفى مقال سابق كان عنوانه (غياب واكتساب) ذكرت فيه امرين غائبين اظن بوجوب الاهتمام بهما يتمثلان فى "غياب ثقافة المشاركة، واكتساب مرونة التفكير". وهنا احاول ان اشير باختصار الى مسألتان هما "تداول السلطة، ونسبية الحقيقة" دون الخوض فى الكثير من التوصيف الممل.
من البديهي ان هناك دوافع ومسببات لما نحن فيه من صراع ودمار ومآسي، ولعله من المنطقى ان نحاول البحث عن تلك الاسباب والدوافع بكل صدقية ومكاشفة.
وتحضرنى اجابة مباشرة يرددها الكثير منا تقول.. ان سبب ما نحن فيه هو (الصراع ع السلطة)، نعم هو كذلك وتلك مسألة يتفق عليها معظم من يتحدث فى الشأن العام..ولكن يأتى السؤال الجوهرى الذى يتبع الاقرار بذلك الامر.. وهو كيف نتعافى من ذلك الصراع وكيف استطاعت مجتمعات اخرى تجاوز هذه النزعة الغريزية فى الاستحواذ؟ وصار لديها اليقين بان "تداول السلطة" خير من الاستحواذ عليها واقصاء الاخر، واستقرت مسألة بديهية فى اذهانهم ان ذلك هو الطريق الآمن لاجل استتباب السلم الاهلى والتفرغ للبناء والتطوير.
ولا بأس من تساؤلات لاحقة تبحث عن اجابات شافية: لماذا لم نتعلم ونستفيد من تجارب امم اخرى سبقتنا فى العلم والتقدم على كافة المستويات؟.. ما هى المرتكزات الغائرة فى عقولنا من موروثنا الثقافى الذى يحول دون التعلم والاستفادة من تجارب المجتمعات التى تنعم بالرفاهية والنمو؟.. هل موروثنا يفتقر الى قبول الاخر والنزوع الى الاستعلاء وتبجيل منهج الغلبة والبطل الفرد؟.. واذا كانت الاجابة بنعم واظنها كذلك.. فيا ترى ما سبب ذلك؟
هل السبب يتعلق بتشبتنا بالمطلقات وثنائية الفسطاطين، مثل الكفر/ الايمان.. الحق/ والباطل رغم نسبية الحقيقة.. ام ان عقولنا تزخر بـ استعلاء الايمان "وخير امة" وشعر الفخر الذى يمجد ولا ينتقد مثل "لنا الصدر دون العالمين"!! الخ.. من شعارات الفخر والاستعلاء. فى تقديرى الامر يستدعى ولا شك الى مراجعة شاملة "للركام المعرفى" المثوارت فى هذه المنطقة من العالم حتى نصل الى فك الارتباط بتلك المعوقات وصولا لليقين بامرين فى غاية الاهمية براي وهما "وجوب تداول السلطة”، و"نسبية الحقيقة".
وعن نسبية الحقيقة اذكر قول لمحمد جابر الانصارى فى كتابه تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها:(يجب أن يكون واضحاً في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو "فهم نسبي").
ليس الامر بالهين او السهل قطعا ولكن لا مناص من قطع خطوات على ذلك الطريق.. طريق المكاشفة والصدق مع النفس والاعتراف بنسبية الحقيقة خاصة ان هناك علاقة وثيقة وصلة رحم بين تداول السلطة ونسبية الحقيقة، فالايمان بتداول السلطة يعنى فى باطنه ان الكمال الانسانى صعب التحقق واقعا وان الخطأ من طبيعة من يعمل ولذا فلياخذ كل ذى صفة فرصته ويتنحى تاركا الفرصة للتصحيح والتقويم المستمر… والايمان بنسبية الحقيقة يغذى منهجية التداول ويمنع العصمة عمن فى السلطة وبذلك تخدم المضي فى نهج تداول السلطة لا تأبيدها.
الشاهد انهما مسالتان جوهريتان للخروج من نفق العصور الوسطى، نفق الصراع الدموى.