من هو ايتالو بالبو؟
في نهاية عام 1933 عين الدوتشي بينيتو موسوليني المارشال الطيار ايتالو بالو حاكما عاما للمستعمرة الشمال الافريقية او ما كانت تعرف بالشاطئ الرابع للامبراطورية الفاشيستية الصاعدة. قبل تعيينه في منفاه الشمال الأفريقي كان المارشال بالبو وقتها وزيرا للطيران واكتسب معها شهرة دولية برحلاته الجوية حول العالم باحدث ما اخرجت المصانع الايطالية من طائرات منها رحلاته المشهورة عبر المحيط الاطلسي نحو شيكاجو و ريو دي جانيرو...شغف بدأ منذ صباه عندما كان يحمل مشاعل التوجيه ليلا للطائرات التي تمر فوقه في سباق طائرات بولونيا- فينيسيا-ريميني-بولونيا عام 1911.
بالبو الذي ولد في مقاطعة فيرارا عام 1896 في أسرة متوسطةهو رابع اطفالها. عرف بالبو بولعه بقصص روبينسون كروزو والمغامرات في البلدان البعيدة والغابات التي تسكنها القبائل المتوحشة. كان يستمع لقصص الصيادين خلال عطلة أسرته الصيفية على شواطئ الأدرياتيكي عن تلك البلدان البعيدة ذات العادات البدائية واصبح جامعا للخرائط المختلفة ونمت معه مواهب الكتابة والتحقيقات الصحفية والشعر وهو الذي ترعرع على يد والديه، أمه ربة البيت الكاثوليكية الورعة وابيه مدير المدرسة الذي يجمع اطفاله مساء ويحدثهم عن امجاد اجدادهم العسكرية عبر الأجيال وقصص بطولاتهم من فرنسا الى روسيا.
تلاحقت الأحداث سريعا على ايطاليا وتداخلت معارك ثوار جاريبالدي موحد ايطاليا بمعارك تحرير البلقان من الاحتلال العثماني وانطلاق مراكب ثوار الساحل الأدرياتيكي لنجدة اخوانهم على سواحل مونتينيجرو وألبانيا ودبروفنيك من بطش جنود الخلافة العثمانية في حق المقاومين هناك...قتل ارشديق النمسا وزوجته في سارايفو وعصفت الحرب العالمية الاولى على كل اوروبا بشكل ألهب مشاعر الشباب الايطالي للقتال ومنهم الفتى بالبو الذي حاول التطوع منذ سن ال15 للقتال في البلقان ولم ينجح في الانخراط في معارك حماية وطنه الا عندما أعلنت ايطاليا الحرب على الامبراطورية النمساوية المجرية عام 1917.
صقلت شخصية الفتى ايتالو بالبو القيادية خصوصا بعد نيله النوط العسكري بعد قيادته لفرقة في معارك جبال ووديان منطقة جراببا Grappa و جبال الالب في الشمال ضد القوات النمساوية والتي قتل فيها حوالي 40 الف إيطالي. تجربة الحرب التي فجرت توقه ان تصبح ايطاليا قوى عظمى ترسخ مكانتها بين الامم المتحضرة مستندة على تاريخها الروماني المجيد والروح الكاثوليكية القومية الايطالية العظيمة. دخل بالبو وصعد نجمه في الحزب الجمهوري في ميلانو ومع تصاعد المد الشيوعي عبر اوروبا بعد نجاح الثورة اللينينية في روسيا عام 1919، صعدت التيارات المحافظة القومية بعنف لمواجهتها مع دعم مبطن من اصحاب الاعمال والتجارة الخاصة. انتشرت هذه الحركات في شبه الجزيرة الايبيرية وبيروسيا التاريخية (المانيا من بقاياها) والبينينسولا الايطالية كل هذه الحركات عرفت فيم بعد بالحركات الفاشيستية.
من المهم الإشارة لتعليق مؤلف الكتاب حول مصطلح الفاشستية او الفاشية. بصفة عامة يتربط هذا المصطلح في الذهن بالعنصرية و الشوفينية وربما التصفية العرقية في شقيقتها النازية... اصبحت الفاشية اليوم مرادفة للحركات اليمينية المتطرفة ايضا. يتفق المؤلف على النهايات الدموية لكل هذه التنظيمات الأيديولوجية لكن أراد ان يفسر المعنى البسيط لجوهر الحركة عند ولادتها في ايطاليا اليافعة التي لم تتوحد الا قبل عشرات العقود قبلها.
في الواقع، مصطلح الفاشيستية او Fascismo يأتي من كلمة Fascio او بمعنى رابطة او "مثابة" كمثال اقرب من الماضي الليبي القريب جدا لجيلنا الذي حضر عهد القذافي الثوري. مثلا كانت هناك ال Fascio Rivoluzionario او 'المثابة الثورية' التي أسسها بعض المتحمسين من الاشتراكيين السابقين والتي أقامت الاعتصامات والاحتجاجات لضغط على الحكومة لإعلان الحرب على الإمبراطورية المجرية النمساوية والوقوف مع ثوار صربيا والبلقان من العدوان الجرماني الغاشم.
كان بالبو وقتها نشطا في الحزب الجمهوري ولكنه سرعان ما انظم لمثابة فيرارا او "Ferrarese Fascio" التي كانت تطارد الشيوعيين وتعطيل كل احتجاجاتهم العمالية مقاومة والإضرابات في المزارع والمصانع بالتطوع بالعمل وتفويت الفرصة على الشيوعية للانتشار في وطنه بكل السبل. معاداة الشيوعية اصبحت محرك توحيد وبعث الروح الايطالية الجديدة التي حارب من اجلها جوزيبي جاريبالدي وثواره التي خلدت أسمائهم شوارع المدن الايطالية ليومنا هذا.
يجتدل مؤلف الكتاب انه كان لبالبو الفضل في تحويل الحركة الفاشستية من الفوضوية الغير منضبطة الى حركة وطنية صادقة للتغير اجتاحت ايطاليا كلها مع مسيرة روما عام 1921 والتي قادها الاشتراكي السابق والفاشستي الجامح بينيتو موسوليني حتى تقلد موسوليني منصب رئيس وزراء المملكة الايطالية بجانب منصبه دوتشي او قائد الفاشيستية.
كان بالبو احد المؤسسين للمجلس الفاشستي الأعلى عام 1923 وهو لا يتجاوز ال27 سنة وذلك لحماية قيم واهداف الحركة الفاشستية امام القوى الرجعية الاخرى حتى تعيينه من قبل موسوليني وكيل لوزارة طيران عام 1926 محققا حلم بالبو في تبوأ قمة هذا القطاع الذي كانت ايطاليا من رواده رغم خبرته العملية المحدودة جدا. تدرج في المناصب وتعلم قيادة الطائرات حتى وصوله لمنصب الوزير وقائد سلاح الجو مع عام 1929 وهو في سن الـ 33 فقط... انطلق بالبو في اول رحلات نحو اليابان واستراليا واشتهر بجولته بأسطول من الطائرات التي جابت الولايات المتحدة والبرازيل في مطلع الثلاثينيات القرن الماضي.
اصبح بالبو اكثر شخصية شعبية كاريزمية بعد الدوتشي وسفيرا فوق العادة للفاشية حول العالم. في عام 1933 استقبله وكرمه الرئيس الأمريكي روزفلت وتم تسمية طريق في نيوفاوندلاند كندا باسمه بعد توقفه هنا في طريق عودته لإيطاليا بعد رحلة بأسطول من27 طائرة برمائية نحو شيكاجو. كان بالبو مصدر فخر والهام للأمريكيين من اصول إيطالية والذي خاطب بالاف منهم في قاعة ماديسون سكوير جاردن في مدينة نيويورك قائلا ان زمن الذل والمهانة انتهى بلا رجعة وان لهم الحق ان بفتخروا بأصولهم الايطالية العريقة في عهد الدوتشي العظيم. مع منتصف العام 1933اصبح وجه المارشال بالبو مالوفا في كبريات الصحف الأوروبية والأمريكية كأشهر شخص في ايطاليا... ربما اشهر من الدوتشي نفسه مع تردد الإشاعات عن كونه خليفته يوما ما ايضا!. بعد عودته الصاخبة لروما وفي 21 أكتوبر من نفس العام اصدر الدوتشي موسوليني قرارا بتعيين المارشال الطيار حاكما عاما لشمال افريقيا الايطالية او ما اصبحت تعرف ب"ليبيا" لاحقا.
يتبع….
* راجع الحلقات السابقة (رابط)