أضواء على مشروع الدستور
(من الباب الرابع - السلطة القضائية)
إشارة إلى الندوة المنعقدة بمعهد القضاء بطرابلس بتاريخ 22/10/2015، وحضور وفد من المجلس الأعلى للقضاء إلى مقر الهيئة التأسيسية بمدينة البيضاء بتاريخ 01/12/2015 وقد كانت مواضيع تلك الملتقيات تتمحور حول نصوص بعينها في باب السلطة القضائية بمشروع الدستور، وكانت الطلبات تتركز على:
1- كيفية تشكيل المجلس الأعلى للقضاء.
2- إمكانية دسترة الهيئات القضائية.
ولتأكيد مبدأ (الشعب يصنع دستوره)، ومشاركة كل الليبيين والليبيات في صناعة دستور توافقي يجمع كل أبناء الشعب الليبي على كلمة سواء هي "بناء ليبيا"، استمعت الهيئة التأسيسية لكل الآراء والمقترحات، وخلال الجلسات التشاورية العديدة بين أعضاء الهيئة التأسيسية، تم التوصل لتوافق حول تلك المواضيع الهامة وذلك على النحو الوارد في باب السلطة القضائية من مشروع الدستور:
أولاً: دسترة الهيئات القضائية.
ثانياً: تشكيل المجلس الأعلى للقضاء.
ثالثاً: اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء وعلاقته بالهيئات القضائية.
رابعاً: هيئة التفتيش القضائي وعلاقتها بالهيئات القضائية.
وجاءت النصوص في مشروع الدستور على النحو الآتي:
أولاً: (المادة 143 - هيئات قضائية - باب السلطة القضائية): تم دسترة الهيئات القضائية كما جاء في المادة (143) تحت عنوان هيئات قضائية ونصها: "إدارة قضايا الدولة وإدارة المحاماة العامة وإدارة القانون هيئات قضائية ينظّمها القانون ويحدد اختصاصاتها".
تفسير النص ومضمونه: هذا النص الدستوري الواضح يؤكد أن الهيئات القضائية هي أجسام دستورية تم النص عليها في صلب الدستور، وهي ضمانة دستورية ثابتة. ولا يمكن تعديل هذا النص أو حذفه إلا بآلية تعديل الدستور ذاته الواردة في المادة (217 - تعديل الدستور واجراءاته). وهذا النص الدستوري يعطي حصانة دستورية دائمة لهذه الهيئات من أي سلطة أخرى بعدم الغائها، ويتم تنظيم هذه الهيئات القضائية وتحديد اختصاصاتها بقانون تصدره السلطة التشريعية بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء والذي له إبداء الرأي في القوانين المتعلقة بالقضاء وتقديم المقترحات بشأنها وفقاً لنص المادة(137 - اختصاصات المجلس). وهذا مكسب حقيقي راسخ لأعضاء الهيئات القضائية عموما. ومن المعلوم أن كل هذه الهيئات هي "موجودة واقعيا وفعلياً وهي منشأة بقوانين"، وهذا يعني أن المشرّع القانوني ملتزم بالأعراف الدستورية والقانونية عند إجراء أي تعديلات على القوانين النافذة وذلك في حدود المصلحة العامة وبما يرسّخ لتثبيت أي حقوق واردة في "قوانين إنشاء هذه الهيئات" باعتبارها حقوقاً مكتسبة للأفراد كالندب والنقل والترقية والتعيين في المراكز القانونية المختلفة، كما يتمتعون بذات الضمانات المقرّرة لهم قانوناً دون المساس بها. ولا يجوز التعديل في هذه الحقوق والضمانات إلا بمقدار الزيادة وتعزيزها، وكل ذلك بما لا يخالف أحكام الدستور.
ثانياً: (المادة 138 - تشكيل المجلس الأعلى للقضاء - باب السلطة القضائية): جاء النص كالآتي: "يشكل المجلس الأعلى للقضاء بقانون على أن يضمن استقلاليته وتطوره".
تفسير النص ومضمونه: من أهم طلبات السادة والسيدات أعضاء السلطة القضائية والهيئات القضائية كانت عدم قبولهم لعضوية المجلس الأعلى للقضاء من قبل شخصيات من خارج السلك القضائي بحجة عدم جواز أن يكون في مجلس تأديب القضاة شخصيات غير القضاة، وقد كان الرأي الآخر المؤيد لتضمين المجلس الأعلى بشخصيات من خارج سلك القضاء يقول أنه من الضرورة أن يكون هناك رؤى أخرى بالمجلس للاستفادة من الخبرات الأكاديمية والتطبيقية في مجالات التدريس والمحاماة، وألا يكون المجلس حكراً على رجال القضاء، وكل رأي له حججه واسانيده. وقد تم التوافق على النص الوارد (بالمادة 138) والذي يحيل مسألة تشكيل المجلس للسلطة التشريعية مع ضمان المحافظة على استقلالية المجلس وتطوره. وهذا النص يضمن انضمام السادة والسيدات من أعضاء السلطة القضائية والهيئات القضائية لعضوية المجلس الأعلى للقضاء، ولا يستبعد عضوية أي شخصية ينص عليها القانون، مع ضمان المحافظة على استقلالية المجلس وتطوره. ومن المعروف أنه وفقا لنص المادة (137) المتعلقة باختصاصات المجلس الأعلى للقضاء، يكون من اختصاصات المجلس الأعلى إبداء الرأي في القوانين المتعلقة بالقضاء وتقديم مقترحات بشأنها. كما أنه من المتعارف عليه أن السلطة التشريعية محكومة بالنص الدستوري والأعراف الدستورية والقانونية والسوابق القضائية عموما كمبادئ عامة.
ثالثاً: (المادة 137 - اختصاصات المجلس - باب السلطة القضائية): وجاء نصّها متضمنا الاختصاصات الآتية:
1- اقتراح إعادة تنظيم الهيئات القضائية القائمة: (وهذا يعني دخولها في الحركة القضائية).
2- إنشاء هيئات أخرى، وذلك بما قد يساعد على استقلال القضاء وتحقيق العدالة.
3- وجاء في آخر النص: "وينظّم القانون اختصاصاته الأخرى".
هذا النص هو ضمانة دستورية إضافية لتثبيت كل الميزات والحقوق الممنوحة قانونا للهيئات القضائية والمتعلقة بدخول هذه الهيئات في الحركة القضائية من خلال الندب والنقل والتعيين وانشاء مراكز قانونية وفقاً للقوانين السارية، مما يعني المحافظة على هذه المراكز القانونية والاستمرار في آلية الحصول عليها.
رابعاً: (المادة 142 - هيئة التفتيش القضائي - باب السلطة القضائية): هيئة التفتيش القضائي تختص دستوريا بالتفتيش على أعضاء السلطة القضائية. ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى، وبكل تأكيد بما أنها تقوم بالتفتيش على السلطة القضائية سيكون من باب أولى ومن المسلّم به وترسيخاً للواقع أن تباشر الهيئة مهمة التفتيش على الهيئات القضائية، وبهذا فإن النص الدستوري الذي يلزم هيئة التفتيش القضائي بالتفتيش على السلطة القضائية يلزمها كذلك بالتفتيش على الهيئات القضائية من خلال النص القانوني الذي يصدر استنادا إلى هذا النص الدستوري.
الخلاصة:
أنا أحترم كل السادة والسيدات أعضاء السلك القضائي عموما، وأحيي فيهم مثابرتهم على العمل الدؤوب لتحقيق مصلحة الناس من خلال التأكيد على استقلال القضاء وحياده كأساس لضمان تحقيق مصلحة المواطن وضمان حقوقه وحرياته. وفي رأيي الخاص جدا، أن النصوص الواردة في مشروع الدستور والمتعلقة بالمجلس الأعلى للقضاء والهيئات القضائية قد لبّت أكثر مما كان يتوقّعه السادة والسيدات أعضاء الجهاز القضائي عموما، وإن كان في رأي البعض ليس كافيا فأقول أن الكمال لله وحده، ومن الممكن جدا في المستقبل إجراء أي تعديلات دستورية قد تمكّن كل الليبيين والليبيات من التمتع بحياة أفضل في ظل دولة القانون والعدالة. هذا العمل هو عمل انساني جاء في ظروف صعبة لا تخفى على أحد، وهو قابل للتعديل مستقبلا، والأمل المنشود هو أن يكون بداية العلاج لمشاكل البلاد المزمنة من الظلم والدكتاتورية والمركزية وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته وحرمان المواطن من التمتع بخيرات بلاده. إن هذا الدستور التوافقي الذي يصنعه الشّعب الليبي، هذا المشروع الذي أقرّته الهيئة التأسيسية يوم الثلاثاء الموافق 19/4/2016، يقوم على أسس الدين الإسلامي الحنيف والشريعة الاسلامية السمحاء وكرامة الإنسان، ويؤكّد على أمور أساسية وهي:
أولاً: ضمان وحدة البلاد والحفاظ على وحدة التراب الليبي.
ثانياً: عدم العودة للدكتاتورية، وبناء الدولة الليبية الحديثة التي يسود فيها حكم القانون، دولة تقوم مؤسساتها وفق مبدأ الفصل بين السّلطات وتوزيعها، والتوازن والرقابة، وضمان مبدأ التداول السّلمي على السّلطة، وذلك من خلال مبدأ ثنائية السلطة التشريعية والتنفيذية والتوزان بينهما وعدم تجميع السلطتين بيد واحدة، واستقلال القضاء وإقرار مبدأ الرقابة على الدستورية من خلال قضاء دستوري مختص.
ثالثاً: تفتيت المركزية في إطار نظام حكم محلّي يقوم على مبدأ اللامركزية الموسّعة وتوزيع الاختصاصات، وضمان آلية للتمويل من الخزانة العامة ومحلياً، لتوفير خدمة المواطن أينما كان، وتحقيق التنمية المكانية من خلال توزيع مقرات المؤسسات والشركات وإقامة المشاريع في كل الوحدات الادارية بمختلف أنحاء البلاد.
رابعاً: ضمان الحقوق الأساسية والحريات العامة لكل الليبيين والليبيات داخل ليبيا وخارجها، والتأكيد على حقوق المرأة وذوي الإعاقة وحقوق الشباب والمكونات الثقافية واللغوية، ويؤكد على ضمان حقوق الانسان المتضمنة في المواثيق والعهود الدولية التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة والتي تم التصديق عليها من الدولة الليبية.
خامساً: التأكيد على ملكية الشعب الليبي لثرواته الطبيعية، مع ضمان توزيع عادل ومناسب لعوائد الثروات الطبيعية وضمان حق مناطق الانتاج ثم الأقل نمواً، وإقرار مبدأ التنمية المكانية.
هذا الدستور يصنعه الشعب الليبي لتقييد السّلطة العامة في مواجهة الأفراد، وكبح جماح السّلطة، ورفض كل أشكال الاستبداد والدكتاتورية التي عانت منها بلادنا على مرِّ عقودٍ من الزمن. وأتمنى من الله العلي القدير أن يحظى هذا الدستور بمباركة وتأييد كل الليبيين والليبيات، وأن يكون فاتحة خير وبركة على البلاد التي عانت كثيرا وعانى أهلنا داخل البلاد وخارجها من التقتيل والنزوح والتشريد والحاجة والذل والمهانة.... وكان الله في عونهم وعوننا جميعاً.
حفظ الله ليبيا... حفظ الله الشعب الليبي.
أ. عمر النعاس
عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور
10/07/2016