فِي الدول المتقدمـة وعند الشعوب المتطورة الناهضة، لا تجد التزُلف للُسلطة، ولا تطبيلاً للحاكم أو تهليلاً له أو تنزيهاً مِن كُلِّ عيب وشائبة، وتحويله إِلى نصف إله لا يخطئ ولا يسيء التصرف، بينما تجـد كُلِّ ذلك وأكثر فِي مجتمعاتنا، لدرجـة أن الأمـر صار عندنا ثقافـة لها أسس وامتداد، وفِي موروثنا ذلك الشّاعر الّذِي قال - والعياذ بالله - للحاكم فِي إحدى قصائده: "ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ... فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ... وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ... وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ".
جسَّد بعض الشعراء والفنّانين فِي عهد معمّر القذّافي كُلِّ صور التملق والنفاق ومدح القذّافي وكلامـه وسُلطته والانحناء له، إمّا خوفاً منه أو التقرب إليه لنيل عطاياه. ويبدو أن هذا الإرث بدأ يطل برأسه مِن جديد، وبعض مِن الّذِين كانوا يمدحون فِي القذّافي بالأمس ويتزلفون له، تحولوا منه إِلى آخر في سلاسة ومهارة عجيبة، وجدد دخلوا على الخـط وتفوقوا على سابقيهم فِي هذا الميدان.
كم هائل مِن أغاني التمجيد والتهليل لأشخاص بعينهم بدأ يطل برأسه مِن جديد بعدما اعتقدنا أنه عهد ولّى بزوال القذّافي، وانتهاء حكم الفرد المستبد بفضل ثورة السّابع عشر مِن فبراير. عادت ثقافة الإقصاء والتهميش والتخوين ورفـع الزعيم إِلى درجة القداســة، وشيطنة الآخر واستباحتـه. وعاد إرث "يا قائد ثورتنا على دربك طولي"، و"يا ابن الخيمة أنت القائد ديمه، ديمه"، و"عالي وتعلى وارتفع لفوق"، و"عدي بينا يا قائدنا عدي بينا"، و"يمشي عام ويجي عام وكل عام جايبلك بشاير خير"... وغيرها.
لم أكن أتوقع قـط، أن يقال شعر يمجد عقيلة صالح ثمّ يُلحّن ويصبح أغنيّة مذاعة، وتردد!!. هذا مَا حدث، وما تمّ إنتاجه مؤخراً وتمَّ بثه منذ يومين، وقد أرسل ليّ رابط أغنيّة عقيلة، صديق - وعلى الخاصّ - وبعد أن سمعتها زعلت كثيراً وانزعجت وأقلقني القادم مِن الأيّام، فما سمعته هُو استنساخ للقديم الّذِي ثرنا ضدَّه، وماضٍ لا نتمنى عودته، وإرث كان سبباً فِي كل مصائبنا ومصائب المنطقة الّتي نحـن جزء منها.
وختاماً.. لابُدَّ أن نتذكر دائماً أن القذّافي قد جعل كُلِّ شيء فِي عهده يدور حول شخصه، وكُلِّ البرامج تبدأ منه وتنتهي إليه، لدرجة أنه حوَّل الـوطن إِلى صورة شخصيّة له. هذا العمل كان يستفزنا ويغضبنا ويُثير أعصابنا، وضمن عوامل أخرى دفعتنا للوقوف ضدَّه ومعارضة نظامـه، والّتي لا نرضى بتاتاً أن تطل برأسها مِن جديد بعد أن تخلصنا مِن شخصــه ومِن اثنين وأربعين عاماً مضاها الِلّيبيّون يتلقون دروس الولاء القسري اليوميّة لشخص معمّر القذّافي، فِي المدارس والجامعات والوظائف ووسائل الإعلام وحتَّى فِي المساجد. ولابُدَّ أن تعود الأغنيّة الوطنيّة إِلى سابق عهدها، ونخرج مِن الدّائرة الّتي وضعنا فيها القذّافي وفنانوه، ويضع الفنّان والفنَّ مسافة ظاهرة بينه وبين السّلطة، وتكون الأغنية الوطنيّة الِلّيبيّة خالصـة للوطـن تهدف إِلى تعميق محبته وتعزيز الولاء والانتماء له. ولابُدَّ أن تعي النخبـة والمسؤولون أن الفنَّ ليس إمتاعاً فحسب، بل هو أيْضاً أداة مِن أدوات التعبير ووسيلة مِن وسائل التربيّة والتعليم والنهضة، حيث إنه "مرآة المجتمع" كمَا يقولون.
لا يا عقيلة صالـــح....
شُـكْري السنكي
28 مارس 2017م