في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كنت أستمتع أيما استمتاع بمتابعة المجلات المصورة بداية من سوبرمان والوطواط وبونانزا وطرازان ثم البرق وطارق وغيرها، كنت أعرف مواعيد صدورها فمنها يوم الاثنين ومنها يوم الأربعاء وأخرى يوم الخميس من كل أسبوع، لم يكن يفتني منها عدد واحد لا أشتريه وكان سعرها يومئذ 5 قروش للعدد الواحد وكنت أجمعها إلى أن يحين موعد العيد الصغير فأقوم ببيعها مستعملة أمام سينما النصر وهايتي وبذلك أتمكن من تجميع مبلغ الزردة إلى البوسكو أو القوارشة أو الكويفية أو حتى البأكور فيما بعد. وكنا في مساء كل يوم جمعة نذهب الى السينما لنشاهد أفلام الكاوبوي من رينقو وسارتانا وغيرهم وكنا نستمتع حتى بعناوين الأفلام من مثل : سأقتلهم وأعود، والفبيح والوسيم والغبي ...الخ.
وفي هذا الخضم طالعت في بعض المجلات والصحف العربية التي كانت تأتينا من لبنان ومصر وكان الوالد مداوما على قرآتها وكنت أحضرها إليه مع مجلاتي المفضلة والتي كنت أقراء عددا منها في الطريق بين كشك الحداد أمام البريد الرئيسي ومحل الوالد في نهاية سوق الجريد وقبل بداية سوق بوغولة أن مجلة سوبرمان تحديدا كانت موجهة للناشئين لتغسل أدمغتهم وتقنعهم بسطوة الإنسان الأمريكي (هكذا) ثم قرأت في مجلة أخرى أن أفلام الكاوبوي هي لنفس الغرض فأستغربت لذلك أيما استغراب ولا زلت أستغرب ذلك وكنت أدرك أنني لا زلت صغيرا لأحكم على مثل هذا الرأي ولكنني كنت على يقين تام بخطله وأنه لا يمت للواقع بأية صلة فما علاقة إنسان فنان أبدع شخصية كرتونية وأسماها سوبرمان ثم أرفقها بشخصيات أخرى ليمتع النشء الأمريكي وليس الأوروبي ولا العربي بزرع مثل هذه الأوهام، كنت على يقين تام منذ ذلك الوقت وعمري لم يتجاوز العشر سنين أنني مدين للفنان المتواجد في نيويورك بهذا القدر اللانهائي من المتعة ومن المعلومات القيمة التي يبثها هنا وهناك بين صفحات كل عدد عن الكون والمجرات والنجوم والشمس والقمر وغيرها وأتسآل بيني وبين نفسي لماذا يتخيل هؤلأ الكبار والمسنين وأدعياء الثقافة والعلم مثل هذه التخيلات ولماذا يكتبون عنها من الأساس ليقنعوا الآخرين بما هو ليس موجودا من أصله؟ ونفس الشئ ينطبق على أفلام الكاوبوي فمنذ ذلك الوقت ونحن ندرك أن الكثير من هذه الأفلام هي أفلام إيطالية وأسبانية من خلال اللغة التي كانت تشنف آذاننا من قبل أن ندخل صالة السينما وأنها فرع من فن السينما الأنساني في مجمله وينطبق نفس الشئ على غير ذلك من المنتجات.
فكل المنتجات الثقافية والفنية والعلمية وكل الأكتشافات في جميع حقول المعرفة هي إنجازات إنسانية بحتة بمعنى أنها مكسب للأنسانية سواء في الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب وعلى رأس هذه الأنجازات هي ببساطة الديمقراطية الغربية التي عن طريقها أصبحت أمريكا اليوم كما نراها يحكمها أفريقي من أب مسلم ليسلمها لشخص لم يشغل وظيفة عامة في حياته.
فأمريكا مجتمع متعدد الأعراق والمهاجرين من جميع أنحاء العالم وفيه ديانات العالم جميعها وفيه كل الأطياف والألوان والأشكال ولا يقف الأمريكي ليفكرعن أصل الشخص الذي أمامه في المدرسة أو العمل أو الشارع ليقرر كيفية التعامل معه فالجميع سواسية أمام القانون.
وعلى الرغم من ذلك يساء فهمها من كثير من النخب الثقافية في العالم الثالث وخاصة في العالمين العربي والأسلامي وكثيرا ما يضربون أمثلة متعددة ليبرهنوا على أن أمريكا هي وبال على العالم بسياستها الرعناء في العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول، والبعض الاخر يضرب أمثلة عن التفسخ الأخلاقي للمجتمع الأمريكي بالتركيز على الأباحية الجنسية والأدمان على المخدرات والقمار وغيرها من الآفات الأجتماعية.
ويتناسون أن منظمة الأمم المتحدة هي إختراع أمريكي وأن الأنترنت هو كذلك والكهرباء وغزو الفضاء وغيرها من إنجازات أما عن التفسخ الأخلاقي فلم تنجو منه حتى المجتمعات الأسلامية فنحن دخلنا موسوعة غينيس في بيع وشراء الأوطان وليس الذمم فقط.
وما حدث أخيرا فيها من إنتخاب لترامب وقراره الأخير بحظر دخول بعض الجنسيات وما أثاره من زوابع لم تهداء بعد حتى في أمريكا نفسها هي ردود فعل علينا وليس العكس أي أنها (إنتخاب ترامب وقراره) كانت نتيجة حتمية لما فعلناه بأنفسنا أولا وبهم ثانيا، وستصحح أمريكا نفسها كما صححتها فى العديد من المرات السابقة فهكذا هي الديمقراطية تعالج نفسها بنفسها فقط كما يقال: أعطوا وقتا للوقت.
محمد حسن البشاري
بنغازي في 04 فبراير 2017