(1)
طريقِ طويلِ ورائي |
عقد الثمينات في القرن الماضي يشبه كثيرا العقد الثاني من الالفية الثالثة في تاريخ ليبيا، لقد هزم الديكتاتور معمر القذافي في حربه وتدخله في تشاد، وانخفض سعر برميل حتى حد لا معقول، وأمست أسواق الشعب الاشتراكية العظمى! خاوية على عروشها، حينها شدت عجائز ليبيا وبناتها الرحال إلى أسواق تركيا على متن باخرة "طليطلة" في رحلات مكوكية لجلب احتياجاتهم، خاصة بضاعة المناسبات التي منها المأتم ما كثرت حينها، كان الكثير الشباب من الذكور قد قتل أو فقد في تلكم الحرب، ما لا جدوى منها غير طموحات الزعيم والحرب بالوكالة في الصراع على النفوذ بين أمريكا وفرنسا بأفريقيا.
تلكم اللحظة ظهرت عبقرية القائد باصطلاح "المجنب" ما مدلوله تجنيب مداخيل النفط من ميزانية الدولة، فغدا الدينار الليبي يكنى بـ "الكلينكس" باعتبار أن قيمته باتت منديل ورقي، وزغردت عازه إذا ما حصلت على علبة تايد أو كيلو مكرونة أو رز، تحول شعب الجماهيرية العظمى إلى طوابير أمام المخابز القليلة للحصول على الخبز الشحيح، وأمام جمعيات الشعب الاستهلاكية لتلقي كيس محذوف في الهواء، يتداعك الجمع وتناقر الديوك الحاضرة بعضها البعض للحصول عليه، كيس أنت وبختك فما فيه لا يخطر على بال شيطان.
تلكم اللحظة علا صراخ وعويل القائد المفكر معمر القذافي! حتى انه طالب الليبيين بالهجرة حينا وبالاستثمار في رمال وصخور الصحراء في حين أخر، ثم أكمل المشهد بأن عزرَ الليبيين بالهزيمة التي منوا بها في تشاد، عند ذاك هرب الليبيون إلى الامام فتحولوا جميعا للندب على حالهم، وباتوا يلتقون فقط في المأتم للشكوى والنحيب، وعلت المناحة الليبية فأضحت تراجيديا لم تتخيلها التراجيديا الاغريقية ولا مخيلة شكسبير. كان الأخ القائد والمفكر الثائر قد اختزل المرحلة بتطبيق المثل الشعبي: جوع كلبك يتبعك.
(2)
الآن في العقد الثاني من الألفية الثالثة يستعيد الساسة الليبيون ويتبعهم الشعب-الا من رحم ربك- ذات اللغة السياسية، المدن الليبية تصدر الحكومات المتعددة والمتعاقبة قرارات بأنها مدن منكوبة، ومسئول الكهرباء يبكي حال الليبيين من باتوا وأصبحوا في ظلام دامس وصقع، ومسئول البنكنوت يندب اضمحلال الدينار الليبي واختفائه، الجمع في وفاق وطني على أعادت صندوق الندب والعويل الليبي الذي يدق ويخبط عليه بالعصى ساعة الفقد، أما الاستعادة الأكبر هي العودة الميمونة لـ"التقازه" ضاربة الودع: زرقاء اليمامة المبشرة بالبلاء والثبور والأيام السود التي تلوح في الأفق: جاءكم الموت، فأين المفر.
كل الشوارع أزقة والبيوت أبواب مغلقة، ساسة ومحللون وذو باع يصوغون ما بشر به الأخ القائد! الليبيين في خطابه زمن فبراير، يعيدون فجائعه ساعة قيامة الليبيين في صيغة المهدد بالنازلة وما أدراك ما النازلة. يصطف الليبيون صفا صفا يرتلون الفجائع، شيبا وشبابا، نساء ورجال، يغذون الخطى في درب الدموع، ومن كتبت عليه خطى مشاها.
لا أحد يقول كلمة خير أو يصمت فإن فعل ذلكم مخجل، بينهم والمستقبل عداوة وعندهم علم المستقبل شعوذة، لأن مستقبلهم مستمد مما يحاربون من عنده المستقبل يكمن في الماضي، كأنما التدعش وباء صابهم فغدت العقول تبحث عن مأوي من التعقل ومن المعقول فأصابتهم رجفة القيامة قبل حينها فصاروا في غيهم يعمهون. وان تدروش الساسة فكيف أمر من يساسون...؟
(3)
هذه الأيام تعقد الملتقيات والمؤتمرات حول المسألة الليبية كما لن تعقد، والبيانات العربية والافريقية والدولية تنهمر من كل حدب وصوب، والكل في الشأن الليبي يفقهون ويشرعون وما من مبادرة أو مقترح به يتفتق ذهن أحد الساسة الليبيين، ولا تظاهرة دعم لذا اللقاء أو ذاك مثلما حصل مثلا عند مصادرة الكتب من قبل الدواعش السلف الصالح في مدينة المرج؟ لا أحد يبيع الماء في حارة السقاين، لا أحد يختلنا بالأوهام حتى، فإن أجمل ما في الحياة أن تكون أوهامنا معنا أو كما قال شاعرنا مفتاح العماري.