ان اغلب التنظيمات التي تدّعي انتمائها للإسلام، منذ ظهورها في نسختها العصرية ابتداء من تنظيم "الاخوان المسلمون" مرورا بـ "القاعدة " وانتهاء بـ "تنظيم الدولة الإسلامية"، كلها تنظيمات ذات صبغة تنظيمية محكمة وذات بناء هيكلي مركزي ينتهي برأس الهرم، وهو اما المرشد العام للإخوان المسلمين، او الخليفة او الأمير لباقي التنظيمات. كل هذه التنظيمات تشترك ايضا في عامل اساسي اخر، وهو الانتماء للدولة الاسلامية الجامعة، في صورة شاملة لا تعترف بالحدود الجغرافية او الكيانات الوطنية للدول القائمة حاليا، وبالتالي فإن السلطة يجب ان تكون مركزية المرجعية. ان ذلك بالطبع، لا يعني تطابق منهجيّات اي من تلك التنظيمات في اساليب الحكم، ففي حين يعترف تنظيم الاخوان المسلمين بمسألة الانتخابات على الصورة العصرية، ترفض باقي التنظيمات الاخرى ذلك، ويذهب بعضها شططا في اعتبار الانتخابات وفق الديمقراطية العصرية كفرا، كونها منهجا يستخدمه "الكفّار" الذين هم من غير امة الإسلام!
"داعش" وكما يعلم الكثير، هي مصطلح لفظي لعبارة محددة وهي (الدولة الاسلامية في العراق والشام)، حيث اخذت منها الحروف الاولى لكل كلمة، وعلى نفس السياق يمكن اظهار مصطلح "دامش" من عبارة (الدولة الاسلامية في المغرب العربي وشمال افريقيا). في اعتقادي ان ما يسمى "داعش" الآن، هو مجرد تحوّير مظهري لما يسمى القاعدة، كجزء من استراتيجيتهم، تستهدف تغيير الصورة النمطية التي اقترنت بالقاعدة، وخاصة بعد احداث 11 سبتمبر 2001، وذلك لمحاولة تغيير اتجاهات الرأي العام حول ارتباط التنظيم بالأفكار المتطرفة، ففي حين كان هدف القاعدة المعلن هو ضرب امريكا ومن والاها، أصبح الهدف الآن هو ضرب انظمة الحكم في الدول العربية، وهذا التغيّر الهدفي ربما ساهمت فيه بدرجة كبيرة احداث ثورات ما يسمى بالربيع العربي، التي اُسقطت فيها انظمة اربع دول عربية.
ان ظهور تنظيم الدولة والإعلان عنه في العراق والشام، جاء كنتيجة لصراع مرير ودامي تشهده العراق منذ أكثر من عقد، بين ابناء البلد الواحد، وفي ظل غياب ملحوظ لسلطة الدولة، بما تحمله من معنى سياسي وقانوني على الارض، الامر الذي ولّد حالة من الفوضى انتجت غبناً اجتماعياً وسياسياً لدى جزء كبير من الشعب، دفع ببعض الشباب الى الانخراط فيه من باب إعادة التموقع او الهروب من الملاحقة من الآخرين او حتى الهروب من التهميش او طمعا في مكسب مادي مفقود! وهذا بالمثل ينطبق تماما على "دامش ليبيا" حيث تشابهت الظروف وتطابقت المعطيات!
ان تنظيم ما يسمى الدولة الاسلامية، تنظيم محكم، تم استغلاله من قبل دوائر خارجية ذات علاقة بالاستخبارات الدولية وفق طبيعة عملها، لأجل توجيه وتحريك مسار معين، خدمة لمصالح بعينها لهذا الطرف او ذاك، في ظل سياسة تبادل الادوار وحفظ المصالح. ونجده اليوم يستهدف كل الدول في المنطقة العربية، وهو يسعى حثيثا للانتشار فيها لو أمكن له ذلك. ان وقوف المجتمع الدولي وتحالفه المعلن ضد داعش في العراق وسوريا، وخوضه لحرب دولية ضده على الارض ستضعف حتما من قوته هناك، وسينحسر مدّه ولا شك، تحت تأثير الضربات الجويّة العالميّة المركّزة لكنها سوف لن تتمكن من القضاء عليه نهائيا، مثل ما حدث سابقا لتنظيم القاعدة، الذي وان تمكن العالم من التضييق عليه ولجم توغله، فهو لا يزال حيا على امتداد العالم.
ان الحرب الدولية على داعش في العراق وسوريا، وعلى دامش في ليبيا من بعد، وفي كل العالم، وان تمكنت من القضاء على هذا التنظيم وجودا عسكريا على الأرض في بعض المواقع، فهي حتما ستكون عاجزة عن القضاء عليه فكرا وعقيدة!، وهذا ما سيجعل من مهمة القضاء عليه نهائيا مستحيلة وغير ممكنة، الامر الذي يتطلب إعادة التفكير والتخطيط لمحاربة هذا التنظيم وغيره من التنظيمات المتطرفة، التي تفرض نفسها في عقول وأفكار الكثير من البشر على مختلف اجناسهم واديانهم، انها معركة الحق والباطل معركة الخير والشر المستمرة ما وجدت الحياة على الأرض.
ليس امام الليبيين الا خيار الاصطفاف ونبذ الفرقة والانقسام، والوقوف جميعا بحزم وشدة، ضد هذا التيّار الجارف الذي يستهدف ليبيا كيانا وشعبا، وذلك من خلال الجلوس الى مائدة حوار وطني شامل يفضي الى حالة توافق جمعي تصنّف اولويات المخاطر التي تواجه البلد، وتدفع الى تبنّي سياسة وطنيّة تعاضديّة مشتركة، تدفع في اتجاه مواجهة "دامش" تحت راية موحدة ينضوي تحتها كل الليبيين والا فانه سيتفرد بكم مدينة مدينة وقبيلة قبيلة، وسيتمدد مخترقا بنيتكم السكانيّة والاجتماعية والجغرافية ويستفحل امره، ان الامر في غاية الخطورة مما يتطلب انتباها واستباقا عمليّا قبل فوات الاوان. ان "دوامش" ليبيا سيعتريهم "الدمش" الذي هو باللهجة الليبية يعني "ضبابية الإبصار"!، وبالتالي سيفتقدون القدرة تماما على تمييز الليبيين الذين سيكونون اهدافا جماعية لعملياتهم دون استثناء! هل يصحو ضمير الليبيين ويعقلون؟! ام على قلوب أقفالها!!
د. عبيدالله احمد الرقيق
[email protected]