يرمز "علم الاستقلال" إِلى التّاريخ اللّيبيّ والجهاد ضدَّ الطغاة والمستعمرين، وإِلى تأسيس دولة ليبَيا الحديثة وخطى آبائها المؤسسين.. ويمثل الشّرعيّة الدّستوريّة ولا يمثل أسرةُ أو شخصاً أوعهداً. وقد صدقت على هذا العلم، الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة الّتي ضمّت عناصر وطنيّة مثّلت جميع سكّان ليبَيا واعتمدته فِي 21 ديسمبر / كانون الأوَّل 1951م. واخُتيرت ألوانه وشكله وفق معايير معينة، وهُوعلم يمثل التّاريخ الِلّيبيّ ولحظة الانتصار والشّرعيّة الدّستوريّة ولا يمثل شيئاً غير ذلك، ويعكس المكون الِلّيبيّ بإبعاده الثلاثة: الثقافي والسّياسي والنَّضالي. وألوانه الثلاثة ترمز إِلى رايات رفعتها جيوش المسلمين فِي الصدر الأوَّل للإسْلام، وإِلى كفاح الِلّيبيّين مِن أجل الإستقلال، فاللون الأسود كان راية مِن رايات السّنوُسيّة، والسّنوُسيّة كانت تمثل إقليمي برقة وفزَّان. وقد رفع المجاهدون هذه الراية إبّان فترة الجهاد ضدَّ إيطاليا ثمّ تحولت بعدئذ إِلى علمٍ لإمارة برقة فِي مرحلتين: الأولى فِي مرحلة الحكم الذّاتي فِي عهد الاستعمار الإيطالي (حكومة إجدابيا)، والثّانيّة حينما استقلت برقة فِي أكتوبر / تشرين الأوّل 1949م بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة أثناء حكم الإدارة البريطانيّة. وكانت الراية السوداء بالهلال والنجمة راية الجيش السّنوُسي الّذِي شارك مع الحلفاء فِي تحرير ليبَيا مِن المستعمر الإيطالي. أمّا اللونان الأخضر والأحمر فقد كانا مِن مكونات رايات وأعلام الإقليم الطرابلسي إبّان فترات تاريخيّة مختلفة تبدأ مِن الحكم العثماني مروراً بالحكم القره مانلي وإنتهاءً بالجمهوريّة الطرابلسيّة التي أُعلن عنها فِي عام 1918م. ويدل الهلال على الأمل والمُسْتقبل، وترمز النجمة الخماسيّة إِلى الإسْلام وقواعده الخمسة.
يريد بعض أعضاء مجلس النّوَّاب العبث بهذا التّاريخ وهذه الرمزية وبميراث الأباء والأجداد المؤسسيين للدولة الِلّيبيّة، بمقتضى مقترح يقضي بتغيير "العلم" متجاوزين بذلك ميراث الجدود وما نصّ عليه الإعلان الدّستوري بعد ثورة السّابع عشر مِن فبراير، حيث نص الإعلان الدّستوري الصّادر عَن المجلس الوطنيّ الانتقالي فِي 3 أغسطس / أب 2011م، على اعتماد علم الاستقلال واستمراره علماً لليبَيا فِي الدستور المرتقب. تقدم عدد مِن أعضاء مجلس النّوَّاب بطلب يوم الثلاثاء الموافق 10 يناير / كانون الأوَّل 2017م يقضي بتغيير "العلم والنشيد" بحجة أنهما أصبحا عقبة أمام كلِّ الجهود الرَّامية للمصالحة الوطنيّة!. وقد وافق رئيس مجلس النّوَّاب عقيلة صالح وفقاً لتصريح عوض جمعة الفيتوري، مدير مكتب شؤون رئاسة مجلس النّوَّاب، على الطلب ومناقشة المقترح!. ويُذكر أن المجلس الوطنيّ الانتقالي، الّذِي ترأسه المُستشار مُصطفى عبدالجليل، كان قد حذف فقرة جوهريّة أساسيّة فِي النشيد الوطنيّ المجيد والتي ذُكر فيه اسم مَلِك البلاد إدْريْس السّنوُسي موحد ليبَيا وقائد جهادها وصانع استقلالها. وهذا الأمرُ يُعد تزويراً فاضحاً وفعلاً أقرب إِلى فعل الانقلابيين منه إِلى فعل الثوار الّذِين يفترض أنهم ثاروا مِن أجل الحق والعدل ورد الحُقُوق إِلى أصحابها.
البداية كانت بحذف جزء مِن النشيد ثمّ تجاوز دستور دولة الاستقلال عبر تشكيل لجنة معنية بكتابة دستور جديد لا علاقة له بتاتاً بدستور 1951م، الأمر الّذِي يُعد إساءة كبيرة فِي حق مكتسباتنا وتاريخنا وشهادة ميلاد دولتنا الفتية. ووصل الأمر اليوم إِلى المطالبة بإلغاء النشيد وتغيير العلم، وقد يصل الأمر عندنا إِلى العودة إِلى قطعة القماش الخضراء الّتي اتخذها القذّافي علماً لجماهيريته مُنذ نوفمبر / تشرين الثّاني 1977م وإلى ساعة اندلاع ثورة السّابع عشر مِن فبراير / شبّاط 2011م، أو العلم الّذِي تكوّن مِن ثلاثة ألوان هي الأحمر والأبيض والأسود مرتبة بشكل أفقي مِن الأعلى للأسفل، واستمر العمل به حتَّى العام 1972م، أو العلم الّذِي تمَّ اسُتبدله فِي العام 1972م بعلم اتحاد الجمهوريّات العربيّة الّذِي ضمّ مِصْر وليبَيا وسوريا، والمكّون مِن ثلاثة ألوان هي الأحمر والأبيض والأسود مرتبة بشكل أفقي مِن الأعلى للأسفل، ويتوسطه صقر قريش، وبقى العلم الموحد لهذه الدول حتَّى 19 نوفمبر / تشرين الثّاني 1977م.
نظام سبتمبر الانقلابي وما يمثله مِن سياسات ورايات وخيارات، هُو المسؤول الأوَّل عَن الحالة الّتي وصلت إليها البلاد اليــوم، ولحظة الأوَّل مِن سبتمبر / أيّلول 1969م تُعد الانقلاب على الشّرعيّة الدّستوريّة، والتمسك بما جاء به نظام سبتمبر والمطالبة بعودة راياته، ينذر بحلول الكارثة وانفراط عقد الوحدة الوطنيّة. ونكران ميراث الجدود والإساءة إِلى مكتسباتنا التاريخيّة وشهادة ميلاد دولة ليبَيا الحديثة، لن يبنى دولة ولن يقـود إِلى مصالحة وطنيّة، كمَا أن العلم والنشيد والتمسك بهما لن يكون عائقاً أمام الجهود الرَّامية للمصالحة الوطنيّة ومَا التعذر بذلك إلاّ حجة واهية تؤدي إِلى تعزيز الانقسام وتقوِّيض الوحدة الوطنيّة. فإذا أردنا خيراً للبلاد علينا التمسك بميراث الجدود ورفض النكران والجحود، وأن نختار مَا يحقق مصلحة الوطن ويحافظ على وحدته واستقراره وأمنه، وما يستعيد مجد ليبَيا وتاريخها العظيم بين الأمم.
والله الموفِق والمُستعان.