(كلمات أهديها لأولئك الذين طال أمد غربتهم... حتي حال الموت بينهم وبين رؤية والديهم)
كان اللقاء سريعاً قصيراً... رأيتُ في ملامح وجه أمي طول غيبتي... فأسنانها سقطت، وذوائبها شابت، وتجاعيد وجهها ارتسمت، خاطّة على وجهها الطيّب قصة همّ حزين، وأسى طويل، و فراق مديد... فلا أدري... هل كانت تلك التجاعيد من رسم الزمان و فعله؟ أم هى آثارٌ حفرتها في خدّيها سيول الدمع الوافرة، التي طالما تدفّقت من مآقيها حرَّى في هجيع الليل و سكونه، عندما خطرتُ على بالها... أوجئتُها في حلم، فأيقضتُها من منامها... أو ذكّرها بي أحد أصدقائي الذين اقترنت صورتهم في مخيلتها برؤيتي... أو لعلّ عرساً من الأعراس شهدته، فأثار في حنايا نفسها الأشجان، وحرّك في تضاعيف فؤادها الأحزان... فلطالما تخيلَتْ مذ كنتُ رضيعاً، ذلك اليوم الذي سيكبر فيه وحيدها، فتزوّجه بمن يشتهي من النسوان... وسيبقى فلذةُ كبدها لها ذخرا... وسيكون أطفاله لها في كهولتها مهجةً وفخرا... وفيهم سترى ذكريات طفولة إبنها، الذي صار رجلا...
أُوّاه... يا حسرة على أماني لم تتحقق...
أُوّاه... يا حسرة على حضن بطيبها لم يتعبّق...
أعود فأقول: لم يمنعها طولُ الطريق، ولا قصر اللقاء، من أن تشدَّ الرحال مجهدة، وتقطع الفيافي المقحلة، محمّلة بعبأ سنوات الفراق المسهدة، لاهفة بالشوق ألى رؤياه ... تشحذ في الآخرين الهمم أن لابد من لقياه... فكان بفضل الله اللقاء!.
* كَتبتُ هذه الخويطرة في يونيو1989 في الطائرة وأنا في طريقي من أميركا إلى الكويت عبر تونس بعد أول لقاء مع أمي دام ثلاثة أيام في تونس.