أعلن الحداد داخل البيت لثلاثة أيام، وأوصانا لمن اراد أن يحزن معه فليحزن ومَن لا يريد ذلك شأنه، المهم أن لا يخرج خبر حداد بيت "عثمان بن عثمونه". لا يريد أبي مشاكل مع المخابرات، يريد فقط ان يمارس حزنه بصمت وبعمق على شخص تطابقت معه رؤيته للقضية.
حزنتُ أنا معه. بقيتُ في البيت ثلاثة ايام لا أخرج إلا للضرورة، وساعة أخرج لا أكلم الناس إلا رمزاً (هكذا أوصاني ابي) قال لي لا تتكلم حتى لا يتبدد حزنك. وفي البيت خيم حزن وصمت كاد يشعر به الجيران، وفي صباح اليوم الرابع فتح أبي باب البيت وخرجنا. لم نقل لهم أننا كنا في حداد لكنهم شاهدونا نخرج وساورتهم شكوك أننا كنا في الداخل وفي حداد على موت "الحبيب بورقيبة".
كانوا هؤلاء الجيران يعرفون أبي حق المعرفة، وكانوا يعرفون لو أنه عاش إلى اليوم فلن يطلب مني الكتابة عن "كاستروا" الميت قبل يومين، فأبي يُشبه "يريخت" الذي كان يقول : لا نريد أبطالَاً لكننا نريد مجتمعاً لا يحتاج إلى أبطال.
التونسيون، رغم الاحوال السيئة المحيطة بهم، إلا أنهم اليوم مثل ماليزيا والهند وجنوب أفريقيا وشعوب أخرى لا حاجة لها في بطل. لكن كوبا حتماً سيبتلعها المحيط ما لم تأتي ببطل بديل من الغيب، إنها تُشبه فنزويلا بعد تشافيز، أو هي تشبهنا نحن الواقعين بين الخليج والمحيط، إذا استبعدنا من الخريطة تونس وحتى اسرائيل، فما أتسعنا نحن المصابين بعقد جمل يهدر فينا كما يهدر البطل في القطيع.