في حفل لتكريمه ووداعه سألت الأستاذ (رياض) وقد أمضى سنوات طويلة بيننا: "أنت أمضيت سنوات طوال هنا فلا ريب أنك كونت رؤية خاصة بك عنا… فهل شاركتنا إياها؟"… صمت لحظات… ثم أجاب: "بكل صراحة… ليبيا بيتي… وأنتم أهلي… لقد عشت سنوات في السعودية والكويت ورغم المعاملة الرسمية الطيبة إلا أنني لا أستطيع أن أقول أنني تركت أصدقاء خلفي من الجنسيتين. فلم تطأ قدماي بيت احد من زملائي في العمل ولم تتم دعوتي لمناسبة اجتماعية، كانت علاقاتي مقصورة علي علاقات العمل والتي لا أنكر كونها طيبة ولكن شعوري بالعزلة هو ما عجل برحيلي رغم إغراء المرتب".
ثم استطرد قائلاً: "لكنكم هنا في ليبيا تمتازون بالكرم والبساطة ولم اشعر بوجود حواجز بيني وبينكم على الاطلاق. وها أنا أغادر واترك ورائي العشرات من الصداقات الحميمة. ليبيا تمتاز بأنها أكثر مجتمع بدون عوائق طبقية او مذهبية او قبلية تحول بين اناسها أو تمنعهم من التعامل بحرية وبأن يختاروا اصدقائهم ونسائبهم بكل حرية… ربما أنت لا تعلم قيمة ذلك ولكني أعلم لأنني أتيت من مجتمعات بها فواصل وحواجز دينيه ومذهبية وعشائرية بل وحتى سياسية ترسم حدود خفية وتشل حرية الحركة والتواصل فيما بيننا… كما أن وقت الازمات هناك درجة من التعاطف بينكم مذهلة تختفي فيها الخصومات… بل دعني أدهشك بالقول بأن درجة التسامح التي رأيتها هنا لم أراها في مكان أخر… نحن لدينا ان تقاتلت عائلتان فالصراع قد يمضي لعقود والخصومة لأجيال… انتم ينتهي التقاتل بينكم في صلح إجتماعي وتنحصر الخصومة في العائلات… بل أنني شهدت عائلات تعود للتعامل مع بعضها البعض بعد مضي عقد من الزمان على الاقتتال وهذا أمر مستحيل في بلادي".
قلت له حسنا… وماذا عن نواقصنا..؟… ضحك وقال مازحا… "أنتم لا نواقص بينكم… أنتم عويلة ربي… وانتم".. قلت مقاطعا… "لا تتهرب من الاجابة"… رد… "انتم تمتلكون أسوأ القدرات التنظيمية… عجزكم هائل على التقيد بالنظام ولديكم كره ونفور طبيعي من الضبط والربط… كما أن لديكم ميل لتحدى السلطة يكاد يكون مرضي... بصراحة انتم تدللون ابنائكم لدرجة غير صحية بينما تحسنون تربية بناتكم... كما انتم مسرفون وتهدرون مواردكم وتعشقون الجدل الى درجة الادمان. الليبي للأسف يعشق الفردية… انتم لاعبو تنس طاولة بينما الحياة تحتاج الى فرق عمل والى العمل الجماعي… من يتفوق لديكم فالسبب هو مهاراته الفردية التي غالبا ما يتم تجاهلها فلا يجد امامه سوى الانزواء او الهجرة… بالنسبة لي هو أمر محزن بأن ارى المجتمع الليبي بهذه الصورة لأنني اعلم طيبة وذكاء وكرم الانسان الليبي… وهذا كل ما لدي".
قلت "حسنا… وماذا عن مستقبل البلاد؟"… رد قائلا: "هذه البلاد تمتلك من القدرات والإمكانيات ما يمكن ان يجعلها جنة لو تعلم أهلها الانضباط والصبر… وأحسنوا إختيار واحترام زعمائهم".
هذا الحديث كان منذ عدة سنوات ولا زلت اشعر بانه يصف حالنا بصدق ودقة رغم الكثير الذي تغير من حولنا وفينا.