ليبيا المستقبل (د. أحمد يوسف أحمد – الأهرام): عرضت فى المقالة الماضية للقاء الذى استضافه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام حول كتاب الدكتور على عبداللطيف حميدة عن الإبادة الجماعية فى ليبيا وقيمة هذا الكتاب الذى سبقت الإشارة إلى فوزه بجائزة الجمعية الأمريكية العلمية للدراسات المغاربية العام الماضى، فضلًا عن العديد من كلمات التقدير التى حظى بها من كوكبة من الأساتذة الجامعيين المرموقين، وتكفى كلمات نعوم تشومسكى الذى وصف الكتاب بقوله لا تسلط هذه الدراسة الدامغة المؤسسة على عمل بحثى لافت ومكين الضوء على سياسات الإبادة الجماعية للدولة الفاشية الإيطالية التى طال طمسها فحسب، بل تدفع أيضًا إلى إعادة تفكير جدية فى كيفية تأطير تاريخ الاستعمار، والواقع أن هذه الكلمات تلفت إلى القيمة المزدوجة لهذا العمل منهجيًا وسياسيًّا، فهو من ناحية يمثل إضافة حقيقية لمنهجية البحث التاريخى، ومن ناحية ثانية يفتح آفاقًا واسعة لإعادة كتابة التاريخ الاستعمارى لا فى بلداننا العربية والإفريقية فحسب وإنما فى كل القارات التى وقعت ضحية للاستعمار، أو على أقل الفروض لاستكمال ذلك التاريخ وإلقاء الضوء على ما أُخفى أو حُرف عمدًا منه.
وتتمثل الإضافة المنهجية للكتاب فى إلقاء الضوء على الأدوات التى لا غنى عنها لاستكمال البحث من خلال الوثائق، وقد أظهرت تجربة الباحث كما أظهرت تجارب أخرى من قبل أن الوثائق قد لا تسعف الباحث بالضرورة فى الوصول للحقيقة التاريخية. صحيح أن العثور على وثيقة أصلية يمكن أن يقدم إجابات حاسمة على علامات استفهام أساسية لبحث تاريخيٍ ما، غير أنه ما العمل لو أن هذه الوثائق قد أُخفيت عمدًا أو شُوهت، وقد خبرنا هذا مثلًا مع جرائم إسرائيل بحق الأسرى المصريين فى الحروب المختلفة معها، والتى كتب عنها معاصروها من العسكريين الإسرائيليين، غير أن قياداتهم حجبت ما كتبوه حرصًا على سمعة الجيش الإسرائيلى، وقد حدث هذا بالفعل مع مؤلف الكتاب الذى حاول بداية أن يأتى البيوت من أبوابها وهى فى حالتنا الأرشيف الوطنى بالخارجية الإيطالية، لكن المسؤولين عنه منعوه من مواصلة بحثه بزعم كاذب وهو أن المسؤولين الليبيين يمنعون العلماء الإيطاليين من إجراء البحوث فى ليبيا، ناهيك بفقد الملفات الأساسية وإخفاء الأدلة أو تدميرها، وهو سلوك استعمارى بامتياز لا يقتصر على الحالة الإيطالية، وحتى عندما أمكن للباحث الحصول على أوراق وملفات مهمة فإنها لم تتضمن كل الحقائق ناهيك بطبيعتها التبريرية، وانطلاقًا من هذا الصد بدأ رحلته الشاقة عبر الأرشيفين الإنجليزى والأمريكى أولًا ثم الأرشيفين المصرى والتونسى وأخيرًا الأرشيف الليبى، وفى كل خطوة كان يخطوها كان يضيف معلومات وحقائق جديدة لكنها لم تكن كافية لاكتمال بحثه، وقد تأثرت فى هذا السياق بما ذكره عن مكتبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة التى وصف كتبها ومجلاتها بأنها نادرة، وأنه وجد فيها ثلاثة كتب غير معروفة باللغة العربية عن ليبيا الاستعمارية مع أقسام عن المعتقلات كُتِبت فى أوائل أربعينيات القرن العشرين.
وبعد كل هذا الجهد المضنى لم يكن أمامه سوى أن يلجأ للميدان، حيث أجرى 30 مقابلة مع ناجين من معسكرات الاعتقال الخمسة الأكثر عنفًا، واكتشف وجود 220 مقابلة مع ناجين من المعتقلات، وفحص السجلات التاريخية المكتوبة والشفهية، وتعمق فى الإحاطة بالفولكلور والشعر والثقافة الليبية، واكتشف وجود محفوظات قيمة يحتفظ بها بعض العائلات أو الكتاب ذات صلة بالإبادة الجامعية، وكذلك مبادرات محلية لجمع التاريخ الشفهى للحقبة الاستعمارية، وتمكن من مقابلة بعض أفراد الأسر التى تملك رسائل قيمة وصورًا وقصائد وتسجيلات لمواد من سجناء المعتقلات وأجرى مقابلات معهم، كما وجد قصائد ورسومات عن المعتقلات لبعض الناجين فى بنغازى، وقد كان لكل معتقل شعراء وشاعرات قاموا بتسجيل ونقل خبرات المعتقلين، وبعض القصائد التى نظمها هؤلاء ذاع وانتشر حتى أصبح بإمكان أجيال من الليبيين ترديدها من الذاكرة، وللقارئ الكريم أن يتصور حجم المعاناة التى تكبدها الباحث كى يفعل ما فعل، خاصة بالنظر إلى أجواء الشك التى تحيط عادة بالباحث الميدانى وبالذات إذا كان الموضوع ينطوى على حساسية فائقة كموضوع بحثه، وقد تأكد من كم الاستقصاء الذى أُجرى عنه قبل إجراء المقابلات، غير أن الثقة فى شخصه أخذت فى الازدياد بالتدريج بحيث أصبحت المقابلات الميدانية متعة حقيقية، وقد تأثرت بالمقابلات الجماعية التى أجراها، وأقصد تلك التى كانت تتم مع الوالد أو الوالدة بحضور أفراد الأسرة الممتدة الذين كانوا يستمعون بعناية، وكثيرًا ما يُذَكرون والدهم أو والدتهم ببعض التفاصيل التى يعرفونها أو يريدون سماعها مرة أخرى.
وتنطوى الخبرة البحثية للدكتور على عبداللطيف حميدة على دروس بالغة القيمة لا تنسحب على البحث التاريخى فحسب وإنما على العديد من فروع العلوم الاجتماعية ومنها علم السياسة، وقد كان أستاذنا الجليل حامد ربيع ـ رحمه الله ـ يقول لنا إن الباحث الاجتماعى كالحرفى الذى يحمل معه صندوق أدواته أينما ذهب، وعندما يواجه مشكلة مستعصية يأخذ فى تجريب هذه الأدوات واحدة تلو الأخرى حتى يحل لغزه البحثى، وهو ما فعله صاحبنا فلجأ إلى الوثائق أولًا، وعندما تبين قصورها سواء لإخفاء جزء منها أو تشويهها مضى يبحث ميدانيًا مستعينًا بالمقابلات مع الناجين والتراث الثقافى الذى خلفه ضحايا الإبادة الجماعية وغير ذلك على نحو ما رأينا، وهى دروس ملهمة لكل باحث تدفعنا إلى مراجعة ما كُتِب عن التاريخ الاستعمارى، واستخدام المنهجية ذاتها فى دراسة ما خفى من هذا التاريخ قبل أن تضيع الفرصة تمامًا باختفاء أبطال الأحداث، بل فى دراسة بعض الأحداث القريبة كأحداث 9 و10 يونيو 1967 فى مصر والانتفاضات الفلسطينية المختلفة وانتفاضات الربيع العربى وغيرها، فتهنئة حارة للباحث القدير الذى شوقنا للمزيد من الإنجازات على هذا الدرب الشاق.
د. أحمد يوسف أحمد