كتب العقاد عن بواكير اشتغاله بالصحافة وقد أدركته حرفتُها في كتابه (أنا)، وهو لمّا يبلغ بعدُ السادسة عشرة من عمره ويعمل في وظيفة عمومية على حداثة سنّه، وكان عليه أن ينتظر سنتين قبل التثبيت لأنّ الوظائف الدائمة لا تثبّت قبل الثامنة عشرة، مُخبِراً عن نصيحة سمعها من كتبي لمّا حدّثه بأنه يفكّر في إصدار صحيفة أسبوعية باسم «رجع الصدى»، حيث قال له فيها الكُتبيُّ الناصحُ: ”إياك أن تفعلها، وتترك خدمة «الميري» من أجل هذه الصناعة الملعونة “، ولم يمض الوقتُ طويلاً، كما يخبرنا العقّاد، حتى أدرك أنها حقاً صناعة ملعونة كما قال ذلك الناصح، أو على الأقل ملعونة إلى ذلك الحين، ثم طفق العقّاد يُحدّثنا عن معاناة تلك الحرفة، وما يلقاه أصحابها من عنتٍ ولأواء، وجميعهم يدفعون من جيوبهم لإصدار مجلاتهم وصحفهم بعيداً عن مؤسسات الدولة التي لا تعرف من الثقافة إلا المماحكة، إذ يسارع رجالاتها إلى جني ثمار غيرهم، فهم يجتمعون عند المغنم ويتفرقون عند المغرم.
ومن غرائب القصص التي يحكيها العقاد في كتابه (أنا)، وفي كتابه (الفصول)، وفي كتابه (رجال عرفتهم)، وكذا في (المقالات) التي تقع في أربعة مجلدات، قصةٌ تتصل بالمفكّر الكبير العملاق محمد فريد وجدي الذي عمل معه العقاد محرراً ناشئاً في صحيفته (الدستور) حيث لم تكن هيئة تحرير الصحيفة أكثر من صاحبها فريد وجدي وعباس العقّاد، أنّه استاء كثيراً عندما لم يعلم بخبر وفاة فريد وجدي في السادس من فبراير 1954 إلا بعد أن قرأ مقالاً مقتضباً نشره كامل الشناوي بعد أسبوع من وفاته في جريدة (الأخبار) وتساءل فيه قائلاً: ”كيف يموت ولا يشعر به أحد ؟ هل لأننا لا نقدّر العلم والفلسفة والخلق؟ أم ترانا لم نشعر بفقده لكثرة ما عندنا من علماء وفلاسفة وأصحاب أخلاق“، ولم يعلن عن وفاة هذا المفكر الكبير في الصحف المصرية إلا في بضع كلمات مندسّة في ثنايا صفحة الوفيات، وكأنّ هذا الرجل العظيم نكرة من النكرات التي لا يؤبه لها، حضرت أو غابت، في الوقت الذي تهتز فيه الشوارع لموت راقصة أو بغيّ، أو سياسيّ أرعن باع وطنه للمستعمر. يقول الأستاذ العقاد:
”وإنني لأحمد الله أن كانت بداية عملي المنتظم في الصحافة مع رجلٍ كالأستاذ وجدي رحمه الله، قليل النظير في نزاهته وصدقه، وغيرته على المصلحة القومية واستعداده للتضحية بماله وراحته في سبيل المبدأ الذي يرعاه ولا يتزحزح عنه قيد أنملة“.
![]() |
![]() |
ويحكي العقاد في كتبه التي أشرنا إليها، والدكتور محمد طه الحاجري في كتابه (محمد فريد وجدي: حياته وآثاره) أنّ فريد وجدي الذي كان ينفق على صحيفته من جيبه ضاقت أحواله المادية فعرضت عليه العروض المغرية، من الحاشية الخديوية وجمعية تركيا الفتاة، لتمويل الصحيفة نظير أن تكون لسان حال أولئك الممولين فأبى، ورضي أن تقفل على أن يبيع مبادئه وشرفه ويمدّ يده لحسنات الأوغاد، فباع كلّ ما يملك ليسدّد حقوق العاملين معه من طبّاعين ومصففين، وليسدّد ما عليه من دين لتاجر الورق، وباع كتبه في السوق بسعر الورق، وكان من بين كتبه نسخ عديدة من موسوعته الكبيرة (دائرة معارف القرن العشرين) فباعها بعشر ثمنها في السوق، وكذلك فعل بمعجمه المسمى (كنز العلوم واللغة) فباعه بثلاثة عشر قرشاً وكان ثمنه يومئذٍ مائة وعشرين قرشاً، وما أبخسه من ثمن يُقدّم لسداد دين!!.
لسائلٍ أن يسأل: لم هذه المقدمة والحديث ينبغي أن ينصبّ على علمٍ من أعلام الصحافة الليبية حسن الأمين؟.
أجيب عن ذلك فأقول: الأستاذ حسن الأمين لم ألتق به في حياتي قطّ حتى هذه الساعة، وكلّ ما بيننا لا يعدو التواصل عبر البريد الإليكتروني في كلمات مقتضبة أُشْعِرُه فيها بما أرسلته إليه للنشر في مجلته (ليبيا المستقبل)، أو في (السقيفة الليبية)، فيخفّ لنشرها دون تلكؤ أو إبطاء.
وإنما الذي شدّني إليه أمران: نضاله المستميت ضد العسف والاستبداد في العهد المنصرم، والهوس الصحفي الذي تملّكه حتى صنع منبراً ثقافياً في أحرج الظروف السياسية التي كانت تعيشها البلاد، يوم كانت الكلمة الحرّة تساوي عنق صاحبها. رجلٌ ذو همّةٍ عالية بلا ريب، وأصحاب الهمم قلائل. ولذلك استدعت ذاكرتي، على وهنها، نماذجَ يشترك صاحبُنا معها في كون كلّ واحدٍ منها عالماً قائماً بذاته، ويمثل تجربة فريدة في عالم الصحافة.
كنتُ أقول في خاطري، وانا أتملّى الإرشيف القديم من (ليبيا المستقبل) الذي يمتد من عام 2003 إلى عام 2010: ”هذا عملٌ مؤسساتي يعجز عنه الأفراد“ لا سيما في ذلك العقد من التاريخ حيث كانت الظروفُ السياسية ملتهبةً، وكان ريبُ المنون متربصاً بكلّ مُشرئبٍ بعنقه. ولذلك صحّ في خاطري أنّ صاحب (ليبيا) المستقبل، ورصيفتها اللاحقة (السقيفة الليبية) أنه ”الرجل المؤسسة“.
ومفهوم رجل المؤسسة ليس غريباً في عالمنا العربي، وهو ينشأ في الغالب عندما تنقطع السبل بالأفراد، وينعدم مفهوم الدولة، فلا يملك المرء إلا أن يقوم مقامها ويؤدي واجباتها، فينبري الدهاقنةُ المنتفعون من أجسام الدولة الهلامية في سلوك مخاتل إلى تشجيع العمل التطوعي وهم يغنون للوطن: ”فالخلود للجدود.. إنهم قد شرّفوا هذا الوطن“.
ومن يعرف قدر الرجال لا يملك إلا أن ينحني احتراماً للأستاذ حسن الأمين، ذلك الرجل الذي يعمل في صمت، وأتخيله يجمع ليله بنهاره وهو يقرأ ما يرسَل إليه للنشر ويتحقق منه، مفتشاً ومدققاً، مخافةَ أن تفلتَ كلمةٌ نابيةٌ أو جارحةٌ تمسّ الذوق العام، وديدنه فيما ينشر ذلك القانون الصارم الذي يتبعه وهو (الموضوعية الأخلاقية). لقد آثر هذا المقاتل الجسور، الذي لم يتسلل اليأسُ إلى نفسه في جميع معاركه التي خاضها، أن يهجر السياسة التي تحولت من مراعاة شؤون الأمة إلى نزق ورعونة وطيش، وأن ينصرفَ إلى معركةٍ ضروسٍ أخرى هي معركةُ الوعيِ والبناءِ، وهي معركةٌ شريفةٌ مُجْهِدةٌ، ولكن لا يُرى لمقاتليها في أعين الدّهماء فضلٌ.
(حسن الأمين)، ليس مجرد صحافي مرتزق يعمل في الصحافة، ويستكتب أقلاماً من هنا أو هناك، ولكن الأقلام تأتيه بطوعها ليقينها أنّ (ليبيا المستقبل) تحمل رسالة نبيلة تسعى إلى النهوض بالأمة، وتبحث عن أسباب عللها، وعلاج أوصابها، ولأنها منبر من لا منبر له. وكأني به يقول للكاتبين بها: ”اكتبوا ما شئتم، واحذروا الشطط، والزموا الأدب، ولا تحيدوا عن الحق والنَّصَفة فإنّ ذلك مهلكة“.
![]() |
![]() |
في تاريخ الصحافة العربية أحوال مماثلة لتجربة (ليبيا المستقبل) تثير الانتباه ويبدو أنّ قيامَ فردٍ واحدٍ بتأسيس مجلة أو صحيفة يديرها بنفسه، أو في أحسن الأحوال يعينه فردٌ أو إثنان، ظاهرة شائعة في عالمنا العربي. وهذا، لا ريب، جدير بالتأمّل لمعرفة أيّ إرادة قوية تكمن وراء ذلك . حينما تأملت في حالة (ليبيا المستقبل) ورصيفتها (السقيفة الليبية) تداعت أمامي صورٌ قديمة مماثلة لأعلام كبار من رجالات الصحافة والفكر . تذكرت مجلة (الأديب) التي كان يحررها الأستاذ ألبير أديب (1908-1985) من داره المتواضعة في بيروت، والتي ظلّ يقوم على شأنها من الألف إلى الياء، وينفق على طباعتها من ماله الخاص، وكان يرسِلُ إليه كبارُ الأدباء والكتّاب بمقالاتهم وخواطرهم وأشعارهم من بلدان مختلفة وهم يدركون أن أديب أفندي لن يدفعَ درهماً لأيّ كاتب، على غير المعتاد اليوم إذ الكلمة تُباع وتشترى كما هي الحال مع أيّ سلعة، وهم يكتفون راضين كلّ الرضا أن تجد أعمالهم مكاناً لها على صدر مجلة (الأديب). نجح ألبير أديب في استكتاب ثلة كبيرة من عمالقة الأدب والفكر في العالم العربي، تزينت بأسمائهم صفحات (الأديب) من أمثال: عمر الفاخوري، وإلياس أبوشبكة، وأحمد حسن الزيات، ومنصور فهمي، وطه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وخليل مطران، وجبرائيل جبور، وميخائيل نعيمة، وراجي الراعي، وعيسى إسكندر المعلوف، ونيقولا فياض، وجبرائيل جبور، وسهيل إدريس، وعبد الرحمن بدوي وآخرين. لم تتوقف مجلة الأديب عن الصدور إلا بتوقف قلب صاحبها عن النبض.
سقى الله ذلك الجيل المبدع الخلاق، وسلّمنا الله من قادم الأيام إذ بتنا نتحسر على الأمس الدابرِ، ونشتاق إلى غدٍ مشرقٍ لا تنبئ حوادثُ الأيام أنه مقبلٌ علينا أو أننا سندركه، فقد أضمحلّت القيمُ وتشوّهت الفضائل، وغابت المعايير، وتصدّر المشهدَ شذّاذُ الآفاق وكأنهم آفاتٌ حطّت على البلاد من كلّ حدبٍ وصوب، أو أفاعٍ رقشٌ تنهش فيه من كلّ جانب.
ختاماً، من يصنع منبراُ للثقافة يصنع أمةً وأجيالاً مستنيرةً، فالمنابر الثقافية لسان حال المجتمعات، وتعتزّ بعض الشعوب بأنّ عمر بعض منابرها يتجاوز القرنين من الزمان، وحُقّ لهم أن يعتزوا بذلك ويفتخروا.