(هذه حلقة أولى من بضعة فصول سأرسلها إلى صحيفة (ليبيا المستقبل) تباعاً عن شاعرٍ ليبي مبدع، لم يكتب عنه أحدُ من قبلُ قطّ بالرغم من شاعريته الفذّة. ولا أدري لماذا هذا الإعراض عنه؟ ولماذا لم يلق هذا الشاعر أيّ عناية من قبل الناقدين؟ حتى إننا لا نعرف من هو؟، ومن يكون؟ حتى هذه الساعة، فأردت أن أعرّفَ به من خلال ديوانه اليتيم (الورد الأبيض)، ولم أجد أولى من منبر (ليبيا المستقبل) سبيلاً إلى ذلك، رجاء أن يخاطبنا من يعلم عنه شيئاً في التعليقات).
وقع أحدهم يوماً على قارورة عطر مُلقاة على قارعة الطريق، فذهب بها إلى أحد العطارين ليبيعها، فبخسه العطارُ ثمنها، وقال له إنها لا تساوي في السوق درهماً، وأنا أعطيك درهمين.نظر صاحبنا إلى العطار نظرةً شزراء، ولسان حاله يقول:"إذا كانت هذه القارورة لا تساوي درهماً كما يزعم العطّار، فما باله يشتريها بدرهمين؟". غادر صاحبُنا حانوتَ العطّار، إلى حانوت آخر، وعرض على صاحبه القارورة.دسّ العطّار الثاني أنفه فيها يشمّ أريجها، وقال له: "هذه بضاعة نفيسة، ولكن لن تجد لها شارياً". ضاق صاحبنا ذرعاً بما سمع، فخرج إلى باحة السوق، وأخذ ينادي على قارورته، فلم يلتفت إليه أحدٌ، فما كان منه إلا أن صاح في الناس:"أنا أولى بها منكم جميعاً"فسكبها على ثوبه، فانتشر أريجها في أرجاء السوق بين الناس، فأُعجبوا برائحتها، وقال له بعضهم:"ياللخسارة !! لو عرضتها عليّ لاشتريتها منك بمائة دينار"، فأجابه صاحبنا ضاحكاً: "لو عرضتها عليك لما دفعتَ فيها فِلْساً واحداً "، ثم طفق يُنشِد: (هذي نفائسُ عطريأبيعها.. فمن ذا يشتريها بربع دينار.. هي روحي وشذا أنفاسي في الدُّنا.. لا تبحثنْ عنها في جؤنة العطار).
الشاعر المجهول مصطفى محمد العربي هو قارورة العطر تلك. شاعرٌ ضيّعه أهلُه فلا نعرف عنه شيئاً إلا أنّ له ديوانَ شعرٍ بعنوان (الورد الأبيض) صدر عن المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان في عام 1980.
في ذلك العام اقتنيت نسخة من ذلك الديوان، وقلّبتُ بعضَ قصائده فشدّت انتباهي، وقررت يومها أن أكتب مقالاً عن هذا الديوان، ولكنني عدلت عن ذلك لأنني لم اتشجّع يوماً للكتابة في الصحف السيّارة السائدة في البلاد آنذاك، لأسبابٍ خاصة، وربما كان ذلك منّي ضرباً من التطرّف، إذ ضيّعتُ حقّ الرجل علينا في التعريف به، ولربما لو فعلتً لكنتُ لقيته أو عرفته يومئذِ.
طرحتُ الديوان جانباً، وضاع بين كتبي، ومضى على ذلك أربعون عاماً بالتمام، وانشغلت بموضوعات الفكر، وابتعدت كثيراً عن الأدب والنقد، حتى وقعت على تلك النسخة اليتيمة من الديوان في أحد الصناديق التي احتفظ فيها بالكتب التي قد تضيق بها أرفف مكتبتي، فشرعتُ في قراءته من جديد، وأنا اليوم غيري قبل أربعين عاماً، فأثار فيّ ملكاتٍ هجرتُها منذ أمدٍ.أشركتُ في قراءة بعض قصائد الديوان التي هزّتني وهيّجت وجداني صاحبيّ الأثيرين على نفسي د.سعدون السويح، والشيخ عبد اللطيف امهلهل، وكلاهما مهووس بالشعر والأدب، وصاحب ذائقة شعرية متميّزة.فاتفقنا ثلاثتنا على أننا أمام شاعرٍ فذّ، وأننا نعيش في وطنٍ يضيّع أجودَ ما فيه، ويفرّط في خيرة أبنائه: شعراء، وأدباء، وعلماء، وكتّاباً، حتى بات في أعين الآخرين أنه وطنٌ عاقرٌ لا يستملح إلا كلّ قبيح، ولا يأبه إلا لكلّ نافرٍ منفلت.
رأيت الشاعر مصطفى محمد العربي وقد تلبّسته روح أبي القاسم الشابي حتى لكأنه من يعنيه في قصيدته (النبي المجهول)، التي يقول فيها:
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً * * فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ * * تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي * * كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي * * كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي * * فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ * * فأدعوكَ للحياةِ بنبسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن * * أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّـور * * وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
أَنْتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ * * حواليكَ دون مـسٍّ وجَـسّ
في صباحِ الحَيَاةِ ضَمَّخْتُ أَكوابي * * وأَترعتُها بخمرَة نفسي
ثمَّ قَدَّمْتُها إليكَ فأَهرقْتَ * * رحيقي ودُستَ يا شعبُ كأسي
فتأَلَّمتُ ثمَّ أسْكَتُّ آلامي * * وكَفْكَفْتُ من شعوري وحسّي
نرى نظير ذلك في ثورة مصطفى العربي الجامحة، في خيبة الأمل التي اكتنفته، وفي فلسفة الموت والحياة التي تعتمل في عقله، وفي الفرار إلى عوالم السكينة حيث تطمئن الأرواح وتهدأ، حتى لكأنه يستجيب لدعوة الشابي، وقبله جبران، والشاعر الأمريكي ثورو، وقبلهم جميعا الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، فانصت إليه وهو يغرّد معهم، ولكن لا أذنَ مصغية إليه:
إلى الغابات يا هذا فتلك مراتعُ الأنس
ودَع كوناً بهيميّاً من الصلصالِ والرّجْسِ
إلى الغابات كن طيراً له الأغصانُ كالقُدْسِ
يُغني حالماً بين المروجِ الخضر في الشمسِ
إلى الغابات، يا شاعرُ ذا الكونِ والأنسِ
فإنّ الإنسَ في طينٍ شنيعِ الوجهِ كالرمسِ
لهم ذاتُ الطينِ جنّاتٌ وعندك عالَمٌ منسي
فدَعْه وطِر إلى دنيا ضياءِ الروح لا الحِسِّ
لِنشربَ خمرةَ الطُّهـرِ لها الأزهارُ كالكأسِ
أنا أيها الطينُ عندي فؤادي
وعيناي قد فّرّتا من سُهادي
فلم تعُد الآن أنت بلادي
لقد كان جمرُك لي كالوسَاد
وهمّك زادي بدنيا السّواد
ولم تَعُدِ الآن أنت بلادي
مع الصباح طرتُ إلى الغابِ أشدو
وأرشفُ قطرَ الندى في الغصون ْ
وداعاً ديار الصراعِ الشديد
لأجلِ الفُروجِ لأجلِ البطونْ
وداعاً وحوشَ الردى والدّمار
وأهلَ الرّياء وأهْلَ الميون
وداعاً قلوبَ الحديدِ الشّديدِ
ومن ملأوا هامهم بالجُنون
وَمن همُّهم في صحون الثريدِ
وداعاً وداعاً رفاقَ المجون
وداعاً رفاقَ الخَنا والدّدِ
من الأوّلين إلى الأخرين
أنا ذاهبٌ والصباحُ رفيقي
إلى الغابِ أطرح آصار طين
أنا راحلٌ فاخلدوا في الجسومِ
أنا مُطْلَقٌ فاخلدوا في السجون
هنا في المروجٍ وسِحرِ المروجِ
وبين العُيون وموج العيون
هنا حيثُ دقّاتُ قلبي تقول:
«سـلامُ على الطّـير بين الغُصون»
هنا بهجةٌ كالرّحيق الشّفيف
وحُسْنٌ غريبٌ خَلوبٌ فَتون
ولا أشكّ أنّ الشاعرَ (مصطفى العربي) خرج من عباءة الشابي التي تلفّعها في بواكير حياته الشعرية، فهو لا يخرج عن أنفاسه إلا قليلاً، وربما ينتحل عنوانات بعض قصائده، مثل قصيدته (صلوات في ليلة القدر) التي تماثل إلى حد ما عنوان قصيدة الشابي (صلوات في هيكل الحب). ثم لم يلبث (العربيّ) أن انزاح قليلاً عن الشابي، وإن لم يتفلّت منه، فكتب شعراً مشحوناً بالمعاني الفلسفية المتشبعة بالروح الوجدانية، على منهج غير منهج الشابي، ومنهج الرابطة القلمية، ومدرسة أبولو.ولو كنّا نعلم تواريخ قصائده لربما قطعنا بذلك.
سألتُ عن هذا الشاعر المتفرّد كلَّ من أعرف ممن له صلة بالشعر والأدب، فلم يهتدوا إليه، وانصرف ذهننا إلى أنّ صاحبَ الديوان هو الدكتور مصطفى العربي أستاذ البلاغة.وبعد التدقيق تبيّن أنه ليس هو، إذ لا يُعرف أنّ لهذا البلاغي شعراً، وإن كان له فهو لا يعدو شعر الفقهاء.
وبعد لأي اهتدينا إلى بعض المعلومات مدّنا بها الأستاذ محمود اللبلاب، وكان من المسؤولين القدامي بالمنشأة المذكورة، وأفادنا بأن مصطفى العربي غادر البلادَ منذ زمنٍ بعيد، وهو يقيم الآن في لندن، وقد عمل مع إحدى الصحف الليبية مصححاً لغوياً، وأنّ له عملاً شعرياً آخر لم ير النور.
هذا كلّ ما عرفناه عن مصطفى العربي، ذلك الشاعر المغبون، الذي لم ينل حقه من الدراسة والبحث بالرغم من أنه شاعر من طبقةٍ راقية قد لا يبلغها الكثيرون.
وفي درته اليتيمة، مع الاعتذار للثعالبي، المسماة (الورد الأبيض) تقابلك تلك الروح الشاعرة المتمردة التي تصطرع في داخله، وتعتملُ فيها جملة من الأحاسيس استبدّت به، وربما تملّكته : شعور بالتفوّق والتميز، وشعور بالتجاهل وعدم الاكتراث، وشعور بخيبة الأمل.
رأيتُ في شعر مصطفى العربي عنفوان المتنبي، ولغة الشريف الرضي ومهيار الديلمي من المتقدمين، ورومانسية علي محمود طه، ورهافة إبراهيم ناجي من المحدثين، وما برحتُ أتخيّل هذا (العربي)َّ يتمثل بقول إبي الطيب: (تقلّدتني الأيام وهي مدبرةٌ ** كأنني صارمٌ في كفّ منهزمِ).
ولا أرى منهجاً لدراسة شخصية الشاعر "العربي"في غيبة سيرته الذاتية، إلا من خلال محاولة التحليل النفسي لمادته الشعرية، لإدراك بعض أسرار إبداعاته الفنية. ولعلّنا نكشف عن شيءٍ في أبنيته اللغوية يشي بالمؤثرات الشعرية الخارجية التي ساهمت في صناعته.
وأحسب أنّ قصيدته المسماة (قصتي بين السماء والأرض)، وهي أشبه ما تكون بملحمة شعرية، وتقع في 658 بيتاً، أهم ما في ديوانه (الورد الأبيض)، وهي نصٌّ غنيٌّ بالصور مكتنزٌ بالمعاني، وتستحق أن تُفردَ لها دراسةٌ مستقلةٌ ـ فضلاً عن كونها النصّ الشعري الرئيس في الديوان.ويلي هذه الملحمة قصيدتان أخريان فريدتان تشكلان نافذة تُطلّ على عوالم هذا الشاعر الذي ظلّ مجهولاً بين أهلِه: (رحيل من الضّياع إلى الغربة: عبر خطٍّ شعريٍّ دائرٍ)، وتقع في 200 بيت شعري، و(نيروز الروح) وتقع في 66 بيتاً.الشاعر (العربيّ) يغادر وطنه، ويهجر مرابض صباه ومراتع شبابه، وقد اكتنفت نفسَه الحسرةُ، فلا يأسوه إلا أنه مغادرها إلى عوالم أخرى أفضل، ولو كانت من صنع خياله.ويشاء الله أن يتحقق ما تصبو إليه نفسه المُعنّاة، فيطير إلى جزائر أحلامه فتنقطع عنّا أخبارَه.ويبدو أنّ الشاعر مصطفى العربي وضع نفسه بين خيارين عن غير قصدٍ، الشمال حيث الأرز والسرو والسنديان، والجنوب حيث الرّند والسند والطلح، فحطّ به الرحال حيث الأرز والسنديان.فاستمع إليه يقول:
سلامٌ عليكم ها قد رحلتُ
إلى السّــرو والأرز والسّنديانِ
إلى الرّند والسـنط والطلحٍ أمضي
إلى النّـرجسِ العـذبِ والأرجوانِ
إلى الطّيرِ تشدو خلال الخمائل
والريح ترقص قضبان بان
هنالك أعزف بالقلب شِعراُ
عــظيمَ المعاني متين المباني
وداعاً فها قـد شـددتُ الرّكاب
لبيض الفَراشِ وخُـضرِ السّهول
إلى الجُلّنار وشدو الكنار
شَددتُ الرّكاب وطارت خيولي
ساترككم يا عـبيدَ التّراب
إلى الغاب حيث تُدوّي طبولي
وأحيا هنالك بين الورود
حياةَ الشّعور بكونٍ جميلِ
هنالك أعزفُ للطّـير لحني
وأرقُصُ في المرجِ أو في القفار
سلامٌ عليكم ها قد مضــيت
ولن تَسْمعوا مِنّي بَعدُ غِناء
نثرتُ القصائد كالثـلجِ طُهراً
ومِثل نُحوم السّماءِ بَهاء
بقلبيَ قد صُغتها من دمائي
وروّيتها من دموعي مساء
فلم تفهموا شٍعريَ العبقريّ
وزدتُم هبوطاً وزاد سناء
وطوّحـتتم الشّعرَ يا ويلتاه
ويا غربتي بين دُنيا الحمير
ويا لَلإله من الاكتِئاب
ومن ضيعتي بين هذي القبور
سكبتُ شعوري يا للخسارة
لم تفهموا مــنه شــروى نقـير
مصطفى العربي، الشاعر الليبي المغبون، صوتٌ صارخٌ في البرية لا يردّد صداه إلا الجمادات من صخورٍ ووهاد، حتى لكأن آذانَ البشر بها وقْرٌ، أو داءٌ لا يستعذبُ الجمالَ واللطفَ.والآذانُ إذا استمرأت النشازَ ما عادت تُقبِلُ على اللحن الجميل.فإليك أيها الشاعر المجهول أسوق اعتذاري، وأشفعه بهذه الأبيات مني، وهي أشبه ما تكون بنفثة مصدور:
إذا الشعرُ يوماً غَدا مرتعاً ** لكـلِّ عَييّ وكلِّ بليدْ
فلا تسألنْ عن جمود الشعور ** وعن شاعرٍ كبّلته القيودْ
فذا (العربيُّ) يغنّي اللحون ** كما الطير يشدو بسرّ الوجودْ
عذيري إليه إذا ما الخطوب ** تنادت لقطف جميل الورود
فلا تأسفنّ لقومٍ جُفاةْ ** لِبَلَهٍ أصابهموا أو جمود ْ
فتلك القلوبُ جلاميد صخرٍ ** وهل يفلق الصخرَ غيرُ الحديد
ومن يَثْقُلِ السمعُ في أذنيه ** فهيهات يدري بلحن فريد