حين دخلتُ من باب فندق "الصفوة" بطرابلس كانت هي تجلس على الكراسي الواقعة على يسار المدخل. لا أعرفها وما كنتُ لأجلس معها، فأنا على عجلة من أمري، وكانت حاجتي في الفندق فقط أن أحمل مظروفاً وضعه لي صديق عند موظف الاستقبال، لكن نظرتها أوحت لي كما لو أنها تعرفني. تمهلتُ بعد أن كنتُ مسرعاً في الدخول وعاودتُ ونظرتُ لها فوجدتها ما زالت تتفرس فيَّ. ابتسمتُ في وجهها وحاولت التعرف عليها لكنني بالتأكيد لا أعرفها من قبل، وبادلتني هي ابتسامة كانت أرقْ من ابتسامتي حين سمعتها تسألني إن كنتُ من الجنوب؟!
جميل أن يقربونك الناس من مكانك ويعيدونك إلى منشأك حتى لو كنتَ على مسافة 1000 ميل من منشأك، والأجمل أنهم قبل أن يسألونك يستوحون ذلك من لون سحنتك ومن لون عينيك وحتى ومن لون شعرك الأغبر يستوحون شكلك الجنوبي. لذلك ما إن سألتني: الأخ من الجنوب؟ حتى شعرتُ باعتزاز ينفخني من الداخل وشعرتُ بحنين يعتريني لجنوبي الاسمر وشعرتُ برغبة قوية في التعرف على هذه التي عرفتني وعرفت مسقط رأسي وربما عرفت حتى ما في رأسي دون أن أعرفها، فوجدتُ نفسي اقف في مكاني لألقي عليها التحية وأكاد أنحني قليلاً أكباراً لها لأنها تعرف الجنوبيين حتى لو لم تتعرف عليهم من قبل.
دعتني للجلوس فنسيت أنني كنتُ في عجلة من أمري، وفردتْ يدها ترحيباً بي وهي تشير إلى جهة الكرسي الذي سأجلس عليه فملتُ ناحية يدها بعد أن كنتُ انوي الجلوس على كرسي آخر، ولو قالت لي ابقى واقفاً خارج دائرة الصالون الذي تجلس هي عليه لبقيتُ واقفاً. فأنا لا احترم مَن يحترمون الجنوبيين وحسب بل أخدمهم وأظل واقفاً خارج دائرة الصالون الذي يجلسون عليه، لكنها لم تبقين خارج صالونها ولا حتى بقيتْ هي في مكانها تنتظر جلوسي بل وقفتْ وتقدمت خطوة ترحيباً بي وصافحتني كما لو أنها تصافح رجلاً آخر من الشمال.
يا الله ما اروع أن يصافحك الناس في ليبيا كما لو أنك من الشمال. لم يحدث أن صافحوني بهذا الشكل الحار من الداخل. كان شكلي الجنوبي يُفسد عليَّ سلامهم، فبعد أن يهموا بمصافحة حارة لي تجدهم يُبدلون رأيهم في آخر لحظة، وتجدني أنا أيضاً أتقبل ذلك التبدل الذي طرأ عليهم، وأعذرهم، أو أعذر ذلك الفتور الذي استجد على مصافحتهم، لكنها لم تُبدل رأيها ولم تفتر مصافحتها بل حدث العكس منها.
منذ اللحظة الأولى التي جلستُ معها كانت في داخلي رغبة قوية لمعرفة شيئين اثنين، الأول كيف عرفتني جنوبي وهي التي لم يحدث أن رأتني ولم يحدث أن رأيتها ؟! والثاني مَن هي ومن أين وماذا تعمل وما علاقتها بالجنوب ؟! كنتُ أعرف أن الجنوبيين معروفين باسمرار بشرتهم لكن ما أكثر السُمر الغير جنوبيين في طرابلس، ثم أن سؤالها التأكيدي بدا واضحاً لي أنها لم تتعرف عليَّ من اسمرار بشرتي، وهذا ما تبين لي لاحقاً حين عرفتُ أنها دكتورة في جامعة طرابلس وأنها من مدينة الزاوية لكنها جنوبية الهوى. ولا شيء أجمل في تصوري من لقاء شخصية يكون منشأها في ركن من بلادك وهواه في ركن آخر من البلاد، كان ذلك يُشعرني دائماً بخصوبة مثل هذه الشخصيات.
لم تسألني مَن أكون إلا بعد وقت. فهي ما زالت لم تتعرف عليَّ جيداً وما زالت لم تعرف أن لي محاولات في الكتابة حين سمعتها تقول "أن مبدعي الجنوب يولدون عملاقة من بطون أمهاتهم" ولا أنكر لحظتها أنني شعرتُ بشيء يجمعني بهؤلاء العمالقة، وقلتُ في نفسي لابد انها تعرفني ولابد أنها قرأت لي، لكنني سرعان ما أصبت بخيبة أمل كبيرة حين اكتشفت أنها لا تعرفني ولم تقرأ لي ولا حتى تحسبني كاتباً، فشعرتُ أنني لستُ عملاقاً.
* في الاسبوع القادم نهاية الحكاية...