اليوم يعود إلينا يوم الحزن على فراق اخ كريم وزميل كبير وصديق عزيز هو الدكتور شكري محمد غانم الذي رحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم منذ خمس سنوات. اجل كان يوم ٢٩ ابريل ٢٠١٢ يوما قاسيا بالنسبة لي ولاسرتي ولاسرة شكري ولزملائه وأصدقائه ولكل من كانت تربطه به علاقة عمل او زمالة او صداقة.
رغم مرور خمس سنوات على رحيله لازلت احتفظ في هواتفي النقالة بجميع ارقام هواتفه الخاصة والعامة لم تستطع يدي ان تمتد لإزالتها ولازلت احتفظ بصورته في مكتبي ولازلت اتحدث معه كل يوم وكأنه لا يزال بجانبي حيّا يرزق . صداقة طويلة وأخوة حقيقية ربطتنا منذ ان التقينا لأول مرة في مكتبة الجامعة الليبية في بنغازي ونحن طلبة. كان شكري قادما جديدا كطالب في كلية الاقتصاد التي كانت هي الكلية الثانية في الجامعة الليبية بعد كلية الآداب. لم نفترق منذ ذلك اليوم الا لفترات فرضتها ظروف الدراسة والعمل. ثم جمعتنا ظروف العمل في وزارة شؤون البترول حيث عملت على دعم الجهاز الفني والاداري للوزارة بشخصيتين اقتصاديتين مرموقتين من الشباب الليبي المؤهل هما الأخ وزميل الدراسة في مدرسة الزاوية الثانوية عيسى رمضان القبلاوي وكيلا مساعدا للوزارة منقولا من وزارة التخطيط والأخ وزميل الدراسة في الجامعة الليبية شكري محمد غانم مديرا عاما للإدارة الاقتصادية بالوزارة منقولا من وزارة الاقتصاد. ثم التقينا ثانية لنتقاسم سنوات الهجرة والبعد عن الوطن . ثم انتقل هو الى فيينا للعمل في منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" واستقر بي المقام في دار الهجرة في بريطانيا. ثم اختلفت معه بعد ان رأى ان ينضم الى منظومة ايلول الأسود التي لم يكن يُؤْمِن بها ولم يكن يقبل بخطاياها ولا بجرايمها وكنا شركاء في معارضتها معارضة خالصة لوجه الله والوطن. ذهل حينما كتبت له بعدها: "اكاد أشك فيك وانت مني"!!. ولكنه تفهم أسباب صدمتي من قراره وبرره بان هدفه هو إصلاح ما يمكن اصلاحه من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها تلك المنظومة في حق الوطن والمواطنين. فهل حقق شكري شيئا من ذلك الإصلاح.!؟
لاشك ان فترة توليه وزارة الاقتصاد و رئاسة الحكومة التي كانوا يسمونها للتضليل "أمانة اللجنة الشعبية العامة" كانت مختلفة عن كل ما سبقها. كان شكري مختلفا عن باقي "الأمناء" اختلافا كاملا. فهو لم يحضر اَيا من ندوات "التثقيف الثوري". ولَم يكن عضوا في "اللجان الثورية" ولَم "يتدرب على السلاح" ولَم يكتب التقارير "للقائد".!!
بدا عمله بجرأة لم يعرفها الا ما ندر ممن ساقتهم الأقدار للتعامل المباشر مع "الأخ القائد". كان ينتقد الأداء "اللجاني" حتى لا أقول "الحكومي" في داخل ما كان يسمى بـ "مؤتمر الشعب العام" وبحضور "القائد"!! وعلى خلاف ما كان يتوقعه البعض لم يكون شكري لا صداقات ولا علاقات ودية مع رجال "المنظومة" ولكنه على العكس تماما مد معهم جميعا او مع معظمهم جسورا من العداء والخلاف. عمل ما استطاع لإعادة الحياة للقطاع الخاص الوطني بعد ان قضت عليه السياسات والمقولات الخاطئة للكتاب الأخضر. كان يُؤْمِن بالاقتصاد الحر ولَم يكن يقبل بتدخل الدولة في النشاط الفردي. كانت الدولة قبل شكري تبيع الطماطم والخيار للناس. كانت الدولة قبل شكري تبيع الجزم والملابس في المجمعات والأسواق العامة. كانت "الدولة" تحتكر النشاط الاقتصادي كله وتحول الليبيون والليبيات الى موظفين يتلقون المرتبات من الدولة وأكياس السلع التي تلقي اليهم من نوافذ المجمعات والشركات العامة. وكان كل هذا الجنون يستنزف المليارات من أموال الشعب الليبي ويفتح أبوابا مشرعة للفساد ونهب المال العام. فجاء شكري ليوقف هذا الجنون ويحد من اثاره. ألغى الدعم الحكومي لبعض السلع. سمح لاصحاب العقارات بتأجير عقاراتهم بعد ان كانت تلك أيضا من مهام وزارة الإسكان او "اللجنة الشعبية العامة للإسكان".
تعرض شكري للكثير من النقد ومحاولة التصفية الجسدية من قبل المستفيدين من "الفساد الثوري". رفع الدعم عن بعض السلع كالطماطم والسكر لتخفيف الاعباء عن الميزانية العامة للدولة فأسموه "شكري طماطم"!! ولا اعرف لماذا اختاروا الطماطم دون السكر لإلصاقه باسمه.!! لماذا لم يسموه "شكري سكر" او "شكري الحلو".!!؟؟
يجول بخاطري احيانا ان تجربة شكري مع الناس والحياة في ظل النظام الفوضوي الذي كان قائما في ليبيا جديرة بالدراسة العميقة حتى يتبين لليبيين والليبيات الرشد من الغي. وحتى يعلم الذين ظلموا اَي منقلب ينقلبون.
اكتب هذه الخاطرة عن صديق العمر شكري غانم في ذكرى رحيله وانا اعلم انني إنما اتحدث عنه من خلال علاقة صداقة وأخوة. لم نكن نتحدث في الشأن العام الا في إطار ما ينبغي ان يكون. كان ذلك قبل انقلاب أيلول الأسود وبعده. لم أكن أتدخل في علاقاته الخاصة او الرسمية او اعلم تفاصيلها. ولَم أكن اساله عنها. ولكنه بالتأكيد كان رحمه الله شخصية جدلية بكل المقاييس. وهو أيضا كان شخصية عامة وشخصية سياسية لابد ان تتعرض لألوان من النقد وربما من التهم شانه في ذلك شان كل الشخصيات السياسية في العالم قديما وحديثا. فان كان شكري قد اخطا فسيلقى ربا رحيما. وان كان شكري قد اصاب فسيلقى ربا كريما.
في ذكرى رحيله وهو في رحاب الله لا يسعنا الا ان ندعو له بالرحمة والرضوان. وقد امرنا ان نذكر محاسن موتانا. كم يعز علينا فقد اخ وصديق مثل الدكتور شكري غانم. ولكن لا نقول آلامايرضي ربنا: "أنا لله وانا اليه راجعون". قال تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور} صدق الله العظيم. رحم الله الدكتور شكري غانم. وآلهمنا والهم أسرته الصديقة جميل الصبر والسلوان.