في دولة بسيطة مثل ليبيا، تحول التفكير بشكل الدولة إلى مأزق سياسي، تمَّ التكريس لإشكالاته في صور عدة، تجسدت في الدستور المتنازع عليه منذ ثورة فبراير 2011، والذي اتخذ الآن شكلاً آخر في الصفة والصيغة المتنازع عليها، لتصبح الدستور المُعدل، والدستور غير المعدل، ومن خلال متابعتي للموضوع أرى أنَّ الأمر سينفصم أكثر إلى دستور مرضي عنه، ودستور تمت مقاطعته... لذلك يحضرني السؤال الكبير هو: لماذا تعديل الدستور؟ إذا كنا نرفض شكل الدولة أن يكون فيدراليا، أو تعددياً، أو مركبا، ونقبل بالدولة البسيطة وهي الدولة الموحدة ذات السلطة المركزية؟
إنَّ تحويل شكل الدولة من بسيطة، إلى أشكال أخرى قد يتخيلها الشعب، يعني بالمقابل قبول الآخرين، ونمط تفكيرهم إذا قلنا التفكير الديمقراطي يعني قبول الآخر، كفكر منظم له صوت مسموع، وآراء قد تكون ذات فائدة، في دولة يتركز تكتل سكانها، ومصادرها الحيوية شمالاً، وتتقطع أوصالها جنوبا، وكلما تباعدت المسافة بين سلطة المركز، وباقي الأطراف، زادت متاعب الإنسان الليبي، في تحصيل كثير من الأمور، وفي الاتصال بسلطة القرار، وفي تزايد الخسارة المادية إذا استدعى الأمر سفر أو تواجداً مباشرا.
هل هي مركزية التفكير:
لاشك أنَّ مواطناً ثار في أقصى شرق ليبيا، أو أقصى جنوبها، أو أقصى غربها نتيجة قله الموارد، وضعف البنى التحتية، وانعدام طرق التواصل المباشر، والقريب بأشكال الإدارة التي تقدمها الدولة البسيطة، وعدم توفر فرص دراسية للدراسة بالخارج، وكذلك الخسارة المادية التي قد تكلف المواطن الليبي عبئا ماليا كبيرا، من أجل تحصيل قرار، أو إنجاز إجراء، يستدعي بالضرورة النظر بعين الاعتبار لهذه المشاكل الجوهرية، والتي استدعت قيام ثورة بدولة، ويلزم كثيرا ألاَّ نحاول التكريس أكثر لنقل فكرة مركزية الإدارة، إلى مركزية العقل والقرار، بحيث يتم تهميش آراء الأخرىن، كالفيدراليين، والأمازيغ، بحجة الدولة البسيطة والموحدة.
ربما نحن متسلطين؟
قرأت قبل أيام مطالبات لشخص يدعو للفيدرالية، أسماها حقوقاً حُرم منها، رأيت تعليقا لشخص آخر يقول له: أنت جهوي، وتدعو للتقسيم، وهذا ليس وقته... في الحقيقة توالت التعليقات وكانت آراء شعبية تعبر عن إسكات لأصوات تعبر عن حقوقها، فالفيدراليين ليسوا أقلية، والفيدرالية ليست حركة فصالية، إنها تعبير سياسي إداري لشكل الدولة كتب عنه الانجليزيان ألبرت دايسي، و جيمس برايس، وكانت نتاج تجربة سياسية تخوضها الآن أفضل دول العالم في التنظيم الإداري، والتنسيق العمراني، والأداء المنظم، في مفاصل الدولة، تجربة كهذه تخوضها الإمارات، والولايات المتحدة، واستراليا، وكندا، وألمانيا، لا تعطينا الحق نحن الليبيين في تحويل مصطلح إداري، للاستعداء به على فكر مجموعة من الأشخاص يعيشون بيننا، ويعانون معاناة نفسية جسيمة، نتيجة بعد المسافة، لنحيلهم إلى أقلية اسمها الفيدراليين، وقياسا لهذه التجربة ثمة حقوق ينادي بها الأمازيغ، تكاد تتسبب في عدم التوافق دستوريا على الدستور، مع إنها حقوق عادية، كاللغة، والعلم، والحفاظ على الخصوصية ضمن الإطار العام للدولة بشكلها وجسمها الكبير.
ليسوا أقليات:
لماذا هذا التجريف لأفكار الآخرين، وإضفاء صبغات، وسمات لم يتنادوا بها على أصواتهم؟ فالتكريس لفكرة أنت جهوي، وأنت قبلي، وأنت مناطقي يُعد استعداء يمثل مركزية الفكر، ويسمح بتمدد سلطة المركزية داخل الأفراد، وهذا منافٍ تماما للأعراف الدولية، لأننا لم نقرأ عن تجربة تجعل أفكار الدولة البسيطة أو الموحدة أو ذات السلطة المركزية تنتقل بسياستها إلى أشخاصها، وأفرادها، وتعطيهم الحق في اتهام غيرهم بأنهم دعاة تقسيم، أو فرقة، و إن كنا نحن نسعى لخلق نموذج ليبي، يفكر، ويقرأ، ويتعلم ويسمع صوت الآخر، و يمارس ثقافته في صورة وعي منظم، فذلك غاية نتوسم أن يبرهن بها شعبنا على الوعي بعيدا عن لغة اللا منطق، وهي التعصب للرأي، والتشدد في تعاطي فكرته، مصحوبا بالتهم، وتقريع الغير، وجلد ذواتهم، وإمعاناً في قوقعتهم أكثر.
ماذا يريد الليبيون؟ ومتى يخرجون من بيوتهم؟
الليبيون لا يريدون شيء، وليس لديهم واقع عملي يتدبرون فيه أمورهم، كل ما لديهم مجموعة من الإشكالات السياسية التي خلقتها مجموعة من فئة الأوليغارشيات الداعمة لحكم الفئات المسيطرة على السلطة كي يلتهي فيها الشعب، ويتناحر فيما بينه على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقضي وقته في التقاتل بالكلمات من خلال عوالم افتراضية لا واقعية، يتهيأ له أنه بمجرد كتابة منشور سوف تتغير، لكنه واهم مادام خط الانترنت ممتد، وجيجات عقله تتعبأ بثقافة المنشور الافتراضي. إذ يمكن لليبيين أن يحسموا الأمر في مظاهرة، ويعودوا لدستور 1951 الذي لا توجد به ثغرة واحدة تستحق التعديل، وكل هذا التمييل والتعويم والتهويم، كما يمكنهم إنهاء صراع لجنة الدستور، و إنهاء شكل آخر من أشكال الأوليغارشيا المتصدرة للمشهد ببساطة شديدة.
مالذي نحتاج إليه ببساطة:
أدرك من خلال متابعتي للتغييرات السيوسولوجية الاجتماعية على مجتمعنا، أننا نخوض تجربة مرضية كريهة، تمارس هرطقة التخريف الذي يشطح بالخيال السلطوي بعيدا، تجربة معبأة بالاتهامات والكيل والكيد، وترتكز على صفة نحن وأنتم وهم ،تجربة غاب عنها الصحفي العاقل، والكاتب البعيد النظر، غابت عنها قيم الحب والتواضع بأن يتنازل أحدهم، ويوجه حوارا، أو يصلح وجهة نظر، أو يقود العوام إلى تفكير منظم، وذا أبعاد قيمية تسهم في تأليف شعبنا، ورأب صدع المتجاذبات والمتنافرات من الآراء تجربة يجب أن تلاقي علاجاً نقديا سريعا ناجعا وناجحا، بحيث لا يتم تأجيل كل الإرهاصات والظواهر الطافية على السطح إلى حين إشعار توافقي بين الساسة، بحجة الخوف على تفكك الوطن، فقد ساهم ذلك إلى حدٍ كبير إلى إطالة أمد المخاض، وتعليق كل أمور الدولة، وعلاجاتها في أشخاص ملتهون بالصراع على السلطة، ولعلهم تسبب في تأزيم أمور كثيرة بين مواطني الدولة نفسها... نحن نحتاج إلى الخروج من البيوت، وترك العوالم الافتراضية، نحتاج إلى تحديد مطالب واحتياجات واقعية ننادي بها من باحات الساحات، لا من صفحات الفيس بوك.
عزة رجب سمهود
15/6/2017
* كتابات على الجدار… سلسلة أفكار متنوعة.