- قصة واقعية من زمن الحرب في بنغازي -
الحروب مهما حققت من انتصارات فإن ثمار نصرها تسقى بدموع وآلام الأمهات وأنين الأيتام وانكسار الأرامل... قصتي هذه هي إحدى القصص الكثيرة... تتناثر في الشوارع البنغازية التى اكتوت بنار الإرهاب وجراح المقاومة... بطلة القصة لا علاقة لها بالحرب إلا كونها من سكان المدينة فهى أم مزقتها مخالب الانتقام وفوضي الحال وقلة الحيلة.
عندما بدأت الحرب في منطقة البلاد وتحديداً سوق الحوت والصابري رحلت هنية مع زوجها وأبنائها إلى مكان أكثر آمناً في بنغازي رغم أن تلك الفترة لم يكن هناك مكان يتسم بالآمان فقد كانت الجماعات الإرهابية تضرب بحقدها أينما وصل اتباعها دون تمييز كون المدينة رفضتهم.
هذه العائلة المستورة التى زادت الحرب من أوجاعها لم تجد بداً من استئجار بيت على أمل أن تكون العودة قريبة إلى حيهم الذى ألفوه وبين أنياب الأجره.. وبين جحيم العوز عاشت العائلة حالة الإنتظار المضني والمغموس بالصبر المفروض والمدعوم بكلمات الأمل المزروعة على رمال اليأس غداً ستنتهي الحرب غداً سنعود إلي بيتنا.
لهذه العائلة ابنان أولى الكوارث مع ابنهم الأصغر حيث كان يلعب في أحد الشوارع القريبة من مأواهم الجديد الذى أصبح بيتهم بعد النزوح والذي صار ساحة من ساحات حرب في أيام ماضية.. ليجد قطعة نحاسية مخروطيه راقت في عين الصبي الذي قرر أن ينخر أحشاءها ليعرف ما في جوفها فعاد بها مسرعا ليبدأ عملية شق أعماق هذه القطعة والاستمتاع بما تحمله من مفاجأة له ولكن المفاجأة كانت باهظة الثمن فلم تكن تلك القطعة سوى إحدى المخلفات اللعينة التى انسحب مستخدموها لتبقيىهي قابعة في مكانها في انتظار فريسة تلتهم أطرافها فتكون بذلك حققت ما يتمناه الأشرار وكونها تعود إلى عائلة الذخائر الأكثر عنفاً فهي تعود إلى سلاح (الاربعطاش ونص) الذى تتغذى غرفة النار فيه على هذا النوع من العلف لينطلق مودعا السبطانة التى يندفع من خلالها إلى مبتغاه لكسر قلب أم أو تحويط الأطفال بسياج اليتم المفجع.. ولكن هذه المره تغير المسار وأصبحت هذه المقذوفه بين يدي الصبي الذى ما ان بدأ بطرقها بآلة حادة حتى انفجرت فقطعت يديه وغيبت إحدى عينيه لتبدأ العائلة في دروب المعاناة والسعي بين المستشفيات والعيادات العامة التى تعاني نقصاً في كل شيء ولأن العائلة لا تملك المال ولا تملك الوساطة لم تستطع أن تحظي برحلة علاج خارج الوطن لابنهم الذى أصبح في لحظات عاجز قابع في سرير أحد المستشفيات ينتظر مع المنتظرين معجزة علها تغير الحال إلى الأفضل.
لم تحتمل الأم ما حدث لابنها وصار الدمع رفيق أجفانها غير أن القدر لم يكتف بذلك و كان القادم يتربص بما تبقى من الحاضر فتزداد حالهم صعوبة وتصير حاجتهم للمال أكثر فيخرج ابنها الأكبر وهو ليس بكبير ولكن الظروف هى التى تحدد اعمارنا وليست السنوات خرج للبحث عن عمل يساعد به على توفير علاج أخيه وفى يوم من أيام بحثه الدائم في شوارع المدينة ومحالها التى كانت تختلف في الشكل وتتفق في الإجابة (لا عمل لدينا) كان القدر قد قرر تنفيذ قضاء الله فقد ساقته قدماه إلى منتهي رحلاته وآخر خطواته فبنغازي التى تحررت بفضل الله ورجالها في جل مناطقها لم تسلم بعد من انتقام الحاقدين والحالمين بدولتهم الزائفة فقد كانت القذائف العشوائية تتساقط بين الفترة والفترة على أحياء المدينة فتحصد الأرواح وتدمر البيوت الصامدة في وجه الإرهاب القبيح وكان لهذا الابن نصيب من هذه القذائف فبعد دخوله منطقة سيدى حسين والتى اعتاد أهلها على سقوط قذائف على حيهم تسقط قذيفتان لتكون إحداها النصل الذي يغمد في روح الضحايا ويكون هو أحد القرابين وهو الذى خرج باحثا عن رزقه ليعيل أهله فكانت الصدمة أكبر من أن يتحملها قلب الأم الذي تمزق وجعاً على أبنائها لتصرخ قهراً فقد رحل ابنها الأكبر ليجعل من قلبها نهر دم ينزف الألم من كل مسامه وجرح يتوسد ملح المدينة فيلهب جراحاً لن تعرف طريق الشفاء ولم تكف الدموع والأوجاع ولم ينجح معها كل مضمد فيستولي المرض على جسدها المنهك لتكون بداية خطوات الرحيل برفقة الموت الذى غيبها هى الأخرى لتنتقل إلى بارئها إلى من لا يظلم عنده أحد.