تعمير العاصمة وترويج السياحة في ليبيا
عندما احتل الايطاليين طرابلس عام 1911، كانت عبارة عن قرية صيد تركية هادئة مهملة مقارنة بمدن كبرى مجاورة مثل تونس والجزائر في ذلك الوقت. بدأ الايطاليين ادخال التحسينات الحضرية من شوارع معبدة وإضاءة إمدادات المياه وتطوير الميناء حتى برزت مدينة صغيرة ذات طابع إيطالي في البروز جنوب وشرق الاسوار الخارجية للمدينة القديمة والتي كانت محاطة ببساتين النخيل من ثلاث جهات. ومع ذلك، كانت طرابلس قبل وصول بالبو عبارة عن "قذى للعين" مع قبح المباني التي صمم الكثير منها المساحين والمهندسين العسكريين بدل المهندسين المعماريين المحترفين وانتشار مدن الصفيح البائسة التي يسكنها العرب في أطراف هذ المدينة الكئيبة المتربة.
في الأشهر الاولى من تسلمه الحكم وفي خضم تحضيرها لتكون عاصمة ليبيا الموحدة، هاجم بالبو قبح المدينة بفرض حزمة من المعايير والقوانين الخاصة بتصاميم المباني وشروط الانشاءات والبناء ووجه الصحف لنشر المعايير والشروط الحكومية للبناء في المناطق الحضرية والريفية في طرابلس وضواحيها وتمرير أي مشروع بناء على لجنة تقييم من المهندسين المعماريين للموافقة عليه او رفضه لو خالف المعايير والشروط الفنية الحكومية.
كان التحضير لاستقبال 20 ألف مهاجر سنويا مع العام 1938 حافزا اخر لتجهيز العاصمة لسكانها القادمين من إيطاليا بجانب ولع بالبو بإظهار إنجازاته في وقت قياسي وتحويل طرابلس لمدينة انيقة متألقة مستعدة لاستقبال اصدقاء ورفاق المارشال قبل نفيه. كان يعمل بكل جهد على تحويل مستعمرته المعزولة الى مزار للشخصيات المرموقة والمشاهير من "الوطن الام" وباقي العالم الحديث ووجهة سياحية جديدة تنافس مصر وشمال افريقيا الفرنسية لخلق مزيد من الايرادات مع تصاعد تكاليف تعمير واستصلاح أراضي وطنه الجديد.
بين العامين 1934 و1937 تم الانتهاء من العديد من مشاريع الأشغال العامة في كل من المدينة القديمة و "تريبولي موديرنا" شملت مرافق ترفيهية ورياضية ومركز معارض دولية بالإضافة لتحسين البنية التحتية من صرف الصحي وشوارع معبدة، وإضاءة وامدادات المياه العذبة نحو المدينة من ابار منطقة عين زارة ومشاريع الإسكان الحديثة في مناطق الظهرة وبن عاشور وزاوية الدهماني.
تتضح لمسة بالبو في هذه المشاريع من مراسلاته مع منفذيها، هو اصراره على تنفيذ المباني ذات التصاميم العملية البسيطة التي تمتزج مع البيئة المحيطة بالاضافة لتكاليفها المنخفضة مقابل اعتراضه على التصاميم الكلاسيكية الفخمة. في رسالة صريحة للمهندس البارز Armando Brasini ذكر بالبو سبب رفضه لتصميم مقر بنك الادخار في طرابلس هو الافراط في استعمال الرخام الثمين في تنفييذ ديكوراته الداخلية لان يبدوا ذلك غريبا ومتناقضا بالنسبة لزبون يرفض البنك منحه قرض بألف ليرة عندما يرى نفس البنك أنفق الملايين على الرخام!
رافق هذا النشاط العمراني تدفق الليبيين نحو المدينة لاقتناص فرص العمل وزادت من تفاقم ظاهرة مدن الصفيح المحاطة بالعاصمة وخروجها من نطاق السيطرة وامر ببناء مخيم بدوي خارج باب تاجوراء مكون من 500 كوخ مبني بالطوب ومرافق عامة تشمل اسواق ومقهى وساحة سوق شعبي ومسجد ومرافق طبية. تم الانتهاء من مشاريع اخرى مخصصة لفائدة الليبيين منها مشفى وحجر صحي في ضاحية قرقارش وترميم مساجد واعادة بناء سوق المشير في المدينة القديمة ليتحول لمركز صناعات تقليدية.
مع حلول عام 1938، كانت طرابلس بالبو مأخوذة على اهواء مدينة أوروبية حديثة، "مهندمة ونظيفة" و"واضحة المعالم وعملية" مثل أي من المدن الجديدة أو مشاريع التنمية الحضرية التي نفذها موسوليني في ايطاليا. اعطت طرابلس نفس الانطباع لزوارها: "شوارع كبرى على التوالي، والهندسة المعمارية البيضاء العالية القامة، والمباني العامة الرهيبة، مقر المنظمات الشبابية الفاشية أو البنك ادخار طرابلس، كل مبنى منقوش عليه ` ختم الدولة وسنة البناء بأرقام رومانية. أعطى الطابع الوظيفي للمباني الحكومية جو من السرعة والكفاءة حول المدينة الصاعدة وقد تعزز هذا حرفيا خلال موسم سباقات الجائزة الكبرى، عندما تستعد سيارات المرسيدس والالفا روميو للتسابق في شوارع طرابلس بجو من الانضباط لم يستثنى منه حتى الحدائق العامة على امتداد طريق الشط والتي قلمت اشجارها لتشبه اوراقها شكل منحوتات وجوه بشرية.
مع ترويج بالبو لسباق الجائزة الكبرى للسيارات في طرابلس، تضاعف عدد المتسابقين من تسع سيارات على حلبة طولها 213 كيلومترا الى ثلاثين متسابقا من خمس دول على مسافة 524 كيلومترا مع نهاية العقد الاول للمسابقة التي اقيمت لاول مرة عام 1925. تم بناء منصة مشاهدين تتسع 30 الف متفرج - او ما يوازي كل سكان طرابلس الاوروبين - تم تمويل تكاليفها من مبيعات تذاكر الرهان و اليناصيب الوطنية المرتبطة بالمسابقة. اصبحت السيارات المتسابقة الحديثة تصل لسرعات 200 كيلومتر في الساعة واصبح سباق الجراند بريكس الطرابلسي اغنى سباق في العالم مع وصول عائداته الى 1.2 مليون ليرة ووصل درجة من الشعبية لتدخل بالبو لجلب السفن السياحية و اخلاء العديد من المساكن مؤقتا واقامة الجيش لخيم لايواء الزوار الذين لا مأوى لهم مع امتلاء الفنادق والنزل بالكامل خلال فترة المسابقة.
مع حلول العام 1938 استضافت طرابلس مؤتمر علمي دولي باكثر من 500 مشارك ومعرض طرابلس التجاري الدولي و مؤتمر خاص بالفنادق بالاضافة لعرض عسكري استعراضي من الكلية الحربية الايطالية وتراوحت قائمة الشخصيات من الملك وولي العهد الى الشخصيات العسكرية الفاشية و اقرانهم في المانيا النازية. كانت هذه المناسبات والزيارات أكثر من غرض اشباع غرور بالبو الى الاسراع بخطته لضمان وصول ليبيا الى مستوى من الحضارة جدير بالشاطئ الرابع للوطن الام عبر تحويلها لوجهة سياحية عالمية ايضا وكمصدر مهم لموارد المستعمرة المتواضع جدا.
اعتمد المارشال على مواهبه وذوقه الشخصي كمضيف و مروج و راعي للفنون لجذب المزيد من الزوار لوطنه الجديد وكان تحدي كبير جدا. كانت الامكانيات السياحية للمستعمرة متواضعة جدا. مقارنة بباقي مناطق شمال افريقيا كانت لييبا الافقر و الاكثر تخلفا ولا تستطيع المنافسه مع المراكز راسخة مثل مصر مع القاهرة والأهرامات او مع شمال افريقيا الفرنسية مع اسواق تونس والجزائر و لفولكلور والعادات والحرف اليدوية لمراكش والقيروان. بالاضافة الى ذلك لم تكن المرافق السياحية بافضل حالا من المزارات نفسها عدا بعض الفنادق المتواضعة في طرابلس و بنغازي و بعض المعسكرات لقضاء الليل في بعض الواحات المتناثرة.. أوضح دليل نادي السياحة الايطالية لعام 1929 أن ليبيا لا تزال تحتفظ بسحرها الشرقي البدائي الأصلي، وعلاوة على ذلك، "يمكن للسائح الاستمتاع أمام الآثار الرومانية التي اكتشفت مؤخرا والمجتمعات الزراعية الجديدة التي انتزعت الحياة والحضارة من تحت الرمال".
وعلى الرغم من عوامل الجذب المحدودة للمستعمرة ونقص المرافق، خلال خمس سنوات قبل وصول بالبو للحكم كان عدد السياح قد تضاعف أربع مرات، من 7209 سائح في عام 1929 إلى أكثر من 28 ألف سائح عام 1933. سرع بالو في التسريع مع هذه الوتيرة من خلال وضع صناعة السياحة تحت سيطرة الدولة بتأسيس هيئة السياحة والفنادق لليبيا (Ente Turistico ed Alberghiero della Libia) ولتنظيم والترويج لجميع الأنشطة السياحية. وشمل ذلك بناء وتشغيل شبكة من الفنادق في جميع أنحاء المستعمرة.
تم الانتهاء من فندقين جديدين الرئيسية في طرابلس في 1934-1935، فندق وكازينو الودان، او ما أطلق عليه أحد الصحفيين الامريكيين ب “والدرف استوريا طرابلس" تشبيها بالفندق الفخم الواقع في وسط مدينة نيويورك. أطلق على الفندق الاخر الاقل فخامة اسم المهارى. احتوى فندق الودان على قاعة سينما تتسع ل 500 شخص وكازينو قمار متكامل وحمام تركي (تم اعادة تسميته بالحمام الروماني حسب توجيهات أحد مسؤولي الحزب الفاشيستي) بحيث كان منتجعا متكامل المرافق لا مثيل له في كل شمال افريقيا حسب الدعاية الايطالية وكل ذلك ما يعادل ثلاثة دولارات للشخص الواحد بأسعار 1939 (او حوالي 50 دولارا حسب اسعار 2017). توسعت المرافق المريحة والفارهة مع عدد من النزل في واحات بعيدة مثل يفرن وناولت وغدامس والتي لم تجذب الا عدد قليل من المغامرين والمثقفين الساعيين للعزلة بالاضافة للفنانين وبعض المستكشفين.
روج بالبو للمناسبات الرياضية مع شغفه ومكانته العالمية المرموقة في عالم الطيران قام بمسابقات طيران سنوية ابتدأ من عام 1935. مع العام 1938 استقطب هذا الحدث السنوي نحو 100 طيار تم تقسيمهم على 25 فريقا للتسابق حول اجواء ليبيا بالكامل خلال عشرة ايام مع التوقف في واحات عدة مثل غدامس و براك و الكفرة وشارك المارشال نفسه في هذه المسابقات و تعداها لقيادة فرق البحث عن طيارين سقطت طائراتهم في وسط الصحراء.
كان تطوير المواقع الأثرية احدى المشاريع الاخرى التي أشرف عليها بالبو شخصيا. تحتوي ليبيا على بعض من أعظم الاثار التاريخية من العصر الكلاسيكي، من مدن لبدة وصبراتة في اقليم طرابلس الي المستوطنات الاغريقية القورينية في شحات وطلميثة وتوكرة. بدأ علماء الاثار عملهم حفر هذه المناطق عشية الاحتلال الايطالي سنة 1911 وكان العمل متقطعا بسبب اعمال التمرد وعدم الاستقرار في السنوات الاولى للمستعمرة. تحت ادارة بالبو لم يكن هناك اي انقطاع لاعمال الحفريات وكانت قائمة المشروعات الأثرية الكبرى المنجزة أو التي بدأها مثيرة للإعجاب: في لبدة، استخراج معبد ومسرح روماني متكامل من تحت الأرض وتم ترميم مسرح صبراتة الاثري وكامل شحات الكبرى واستكشاف معبد جوبتير بالكامل.
شارك بالبو بأفكاره وتوجيهاته مع علماء الاثار وعارض الترميم الكامل وحصر اي اعادة بناء أثر باستعمال نفس القطع المحطمة المتناثرة منه فقط والتي تم ترميم المسرح الروماني في صبراتة بنفس الكيفية. في المسرح نفسه اسس المهرجان السنوي للدراما الكلاسيكية وتم اختيار افتتاح المهرحان عام 1937 مع زيارة الدوتشي موسوليني لتقديم عمل " الملك اوديب" مصاحبا لالحان Andrea Gabrieli الاسطوري من القرن السادس عشر وثم ملحمة Iphigenia in Aulis الاغريقية في العام التالي 1938.
وفي طرابلس، تم اعادة تركيب احجار قوس ماركوس أوريليوس المتناثرة وترميم القلعة التركية (السراي الحمراء). اصبحت بعض المقتنيات المكتشفة مع هذه الحفريات من تماثيل واواني والواح فسيفساء معروضه لزوار مقر المارشال في السراي. مع عام 1938حولت جهود بالبو عاصمة وطنه الجديد الى مدينة جذابة متألقة تعكس روحه وطموحه حيث كتب صحفي انجليزي بعد زيارة ليبيا ان "طرابلس عبارة عن جوهرة منحوته حول شحض ايتالو بالبو وانها تشبه جنوب كاليفورنيا او فلوريدا و افضل كثيرا من الريفيرا الفرنسية بفضله".مع ذلك، لم يشعر حتى أكثر زوارها المعجبين بها بكثير من الارتياح مع الاجواء الانضباطية الصارمة المنعكسة في شوارعها ومبانيها الحكومية الرصينة.
مثل معظم العواصم الاستعمارية الأخرى، كانت طرابلس بالبو مثل خلفية فيلم مشوق يلعب فيه الأوروبيين أدوار نصبوا أنفسهم فيها على أنهم أبطال فاتحين، ورسل للمدنية والحضارة. لاحظ صحفي انجليزي اخر انه “يبدو أن العرب قد فهموا أن المنطقة الواقعة وراء السراي الحمراء بانها ليست مدينتهم،”. وأضاف بينما كانت المدينة القديمة، منطقة جذب سياحي، وعلى النقيض من القصبة وأسواق تونس، التي تزخر بنمط الحياة العربية، بدا على العرب في طرابلس نوع من الضياع والحيرة في مدينهم التي اصبحت غربية عليهم.
يتبع... (وفي انتظار غومة!)
* راجع الحلقات السابقة (رابط)