حين كنّا صغار، كنّا ننظر للحبيب بورقيبة، رئيس جمهورية تونس، رحمه الله، على أنه شخصية مضحكة. الطريقة التي كان يشرح بها الأشياء كانت تفصيلية، والصغار لا يحبّون التفاصيل، بالإضافة إلى ذلك، كان بورقيبة يمزج مع التفاصيل شيئاً من الغضب، فهو من الجيل العربيّ الغاضب. هناك حكايات نُسِبَت إليه، ربّما كان وراءها قومجيون أوثورجيون أو قد لا يكون وراءها أحد وقد اقتطعت من الخيال. إحدى هذه الحكايات تقول أن بورقيبة كان يخطب مرة في صالة بها حضور مكثّف من الجمهور التونسي، وقد سألهم فجأة، أتعرفون من هو عدو تونس؟ فصاحت الجماهير، فرنسا فرنسا، سيادة الرئيس، فقال لا، ثم انحنى والتقط من تحت الطاولة التي أمامه، ماعزة صغيرة، رفعها ليراها الجمهور وقال "لمعيز" هو عدو تونس، وكان يقصد المَعِزْ، فهو الذي يتلف الزيتون، وهو الذي يُتلف ثروة تونس القومية.
بورقيبة كان واقعيّ المنهج وكانت علاقته بالقذافي، الذي لا منهج له، علاقة تنافريّة، ألتقى الإثنان في البالماريوم، قاعة الخطابة في تونس، عام 72، ألقى كل منهما خطاباً. بورقيبة لم يكن في نيّته إلقاء خطاب في ذلك اليوم بعد أن كان يتابع خطاب القذافي من التليفزيون في بيته، لكنّه غضب من اطروحات الضيف، كما قال المذيع التونسيّ، فأدرك الاجتماع على عجل وأخذ الكلمة من القذافي الذي كان يصيح وقتها بشعار الوحدة. بورقيبة، كانت أكبر مهام الحكم عنده، بناء الشخصية التونسية على أساس واقعيّ، لهذا لم يستطع مجارة الضيف في بيع الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. كان يريد تحويل الشعارات العاطفية إلى حالة تتعامل مع الواقع، وقد افتتح خطابه على النحو التالي: "ما كانش في الحسبان أن نأتي اليوم للبالماريوم، باش نخطب مثل العادة في الجماهير لكن ما دُمت مسؤول عن هذه الدولة، والمسؤولية جاءتني مهاشي فجأة بثورة مسلحة أو بانتقاضه، بل جاءتني رغماً عن أنفي بعد كفاح دام ما يقرب من نصف قرن". افتتاحيّة تشرح نفسها، وتعبّر بشكل جزئي عن مؤهّلات القائد، فهو الذي تأتي به الأحداث الجسام، وتأتي به سنوات الكفاح الطويلة ولا تأتي به ثورة مسلّحة أو انتفاضة. مقدّمة خطابه كانت موجّهة للقذافي بالذّات، الذي جاء إلى الحكم بثورة مسلّحة، لهذا كانت المقدّمة شديدة عليه، جعلته طوال الخطاب، يقوم بحركات صبيانية لا تليق بحاكم بلد، كان يتثاءب أحياناً ويضحك أحياناً أخرى، وفي أكثرمن مرة، يُشير إلى مرافقه بشير الصغيّر هوادي، الذي كان وقتها وزيراً لتعليم ليبيا وعضو لمجلس قيادة الانقلاب، يشير إليه أن يأتيه، فيقوم الصغيّر هوّادي من مقعده، الذي كان يبعد القذافي ببضع مقاعد، يمرشاقاً الصفّ الأول، الذي كان يجلس به الوزراء والسفراء، حتى يصل سيّده، فيتلقّى منه همسات في اُذنه، ليعود ثانية لمقعده. قام بذلك أكثر من مرة، وكانت المسألة، لغرض صرف أنظار الحاضرين عن خطاب الرئيس بورقيبة، الذي وضع فيه النقاط على الحروف، وسرد فيه تفاصيل التاريخ بشكل وافٍ، يشرح الواقع، وكأنّه شاهد عيان لما كان يحدث.
بعد ذلك حكى بورقيبة عن تاريخ تونس ثمّ عرّج على تاريخ الكفاح الليبي وعن الدور الذي لعبه الأمير إدريس السنوسي في صنع الاستقلال، فأشار إلى مفاوضات الأمير مع البريطانيين، من أجل استقلال ليبيا، وكيف أقـنع الأميرُ البريطانيين بأنْ يكونَ حليفاً لهم في حربهم ضدّ المحور، وهو الصف الذي كان يضمّ عدوّته أيطاليا، بشرط أن يصوّتو معه لنيل الاستقلال. استغلّ الأميرالسنوسي، بذكائه، الحكمة القائلة (عدوّ عدوّك صاحبك،) فكان سياسياً محنّكاً انظمّ بجيشه، (الجيش السنوسي) مع الحلفاء في مواجهة المحور، ونال وعد الحلفاء في نيل الاستقلال بعد انتصارهم على المحور. فعلاً أصبحت برقة بعدها تحت الإدارة البريطانية لكن "الطرابلسيّه" وكما جاء على لسان بورقيبة، أصبحوا بلا غطاء، وفي موقف "حرج"، أ يرجعون لإيطاليا أو تبقى طرابلس تحت الوصاية، أم ماذا؟ الطرابلسيّون، ترجّوا الأمير السنوسي، قال بورقيبة، كي يدخلهم معه في ذلك الحلف ليتمتّعوا هم أيضاً بالاستقلال، الذي وعدت به إنجلترا، قَبِلَ الأمير بضمّهم واستقلت ليبيا، لتصبح لأول مرة في تاريخها، تحت قيادة ليبية موحّدة بولاياتها الثلاث، ثمّ استقلت بعدها تونس عام 56، وتلتها الجزائر عام 63. بورقيبة بعرضه لهذه المقدّمة كان يريد أن يقول أنّ القادة الحقيقيين هم من يصنعوا البدايات، وهم المتميّزون بالحنكة والسياسة، القادرون على عقد الاتفاقيات. بورقيبة كان أحدهم مثلما كان جورج واشنطن وديغول وأدريس السنوسي.
القذافي كان يستمع للخطاب بامتعاض تام، فهو لايعترف بالسرد التاريخي لحيثيات الواقع، بل يغريه القفزعلى أحداث التاريخ، وقد أغاضه ذِكْرُ سيرة الملك أدريس السنوسي وذكرُ الاستقلال الذي كان يعتبره مزّيفاً، لمجرّد أنّه لم يشترك في صنعه، وقد منع الليبيين من الاحتفال به، وتركهم بدون يوم وطنيّ يتفقون عليه! لم يفعل ذلك فحسب بل اسقط كلمة الاستقلال من على لافتات الشوارع والطرق، في طرابلس وبنغازي. ولم يحترم (حق الدم اليّ روّاه بيه اجدادي،). القذافي ألغى كل ما حدث قَبْلَه، لهذا أصرّ بورقيبة بشكل واضح على تذكيره بهذه التواريخ الهامة، وقد قال "هذا تاريخ، لا محال تجاوز، لكن ما ننساهوشي، باش نعرف كيفاش تكوّنت هذه الكُـتل". حتى نهاية خطابه، التزم بورقيبة بالالتصاق بالعامل التاريخي، وقد ختم المقدّمة بالقول "لقد حدث ذلك [يعني اتفاق الأمير مع الإنجليز] عام 42، نفس السنة التي ولد فيها العقيد معمر القذافي" ثم ألتفت إليه.
سَرْدُ بورقية التفصيلي لم ينتهِ عند هذا الحدّ ويقف، بل عرّج على الوحدة التي كان القذافي يسوّقها للتونسيين وكأنّها بضاعة خالية من العيوب وجاهزة للقبول! بورقيبة ردّ عليه بالقول بأنها ليست كذلك، فهي لم تَرْقَ لمستوى المطلب الواقعيّ، وأنّها مُعطىَ لا يمكن التعامل معه في الضروف الحالية، ولا يمكن تسويقه في هذا الزمان! شرح بأنّ الوحدة التي كان يدعو لها عبدالناصر والقذافي ليست وحدة بين شعوب، لكنّها شعار، وستبقى كذلك ما لم نُرسّخ مبدأ الوطنية أولاً. وقد ضرب مثلاً للمحاولات الفاشلة بين مصر وسوريا وكذلك وحدة ليبيا ومصر والسودان ووحدة ليبيا ومصر وسوريا الأسد، ثم تساءل أين هي الآن؟ ورفع يده وكأنّه يوقّع على ورقة في الهواء، هي مجرّد توقيع على ورق. ضحك الجميع بما فيهم القذافي، وبشكل هستيري، مع أنّ القذافي يفترض أن يكون آخر من يضحك، فهو صاحب البضاعة التي كانت مثاراً للضحك، ولهذا اصبح كمن (يضحك والضحك عليه). هذا النوع من الوحدة، قال بورقيبة، لا يمكن أن يكون مثالاً جيّداً "انزيدو مليون ونص ليبي على 5 ملايين توانسه" هذه وحدة الضعفاء. فالتركيز، قال بورقيبة، لا بدّ وأن يوَجّه نحو الوحدة الوطنية فهي ما يقود للوحدة العربية التي "ليست سوى توسيع لمعنى الوطنية" على حدّ قوله، ثمّ أضاف إنّ الوطنية "تحتاج لتغيير في الأدمغة كي يتمّ استيعابها، وقد تحتاج لعشرات السنين إن لم يكن القرون".
هكذا كان الفرق بين بورقيبة والقذافي، بين الانقلابيين والتأسيسيين. بين قصور الرؤية وبُعد النظر، بين صُنع الأوطان وصُـنع الشعارات، بين الاستقلال والحركات الإنقلابية، التي ارجعتنا إلى الوراء، إلى ما قبل الاستقلال، حيث التدخّل الأممي والأجنبي من جديد، اُجهضت الجهود التي كان ينادى بها المرحوم عبدالحميد البكوش لخلق (الشخصية الليبية) واجهضت جهود بورقيبة في التوعية الشاملة بالوحدة الوطنية، وقد كانت كلماته بمثابة الناقوص الذي يدّق في الخلاء، فهي ليست لذلك الزمان حتى يكون لها الصدى في الآذان. تعاملنا معها وكأنّها اُلقيت على جمعٍ غيرنا، بينما كانت موجّهة لنا، وقد ضحكنا منها ولم نُقِمْ لها وزناً، كنّا نضحك ونحن صغاراً وضحكنا ونحن "كبار" لأننا لم نمر بالتجربة الصعبة. ولهذا دفعنا الثمن غالياً وغُصنا في القاعِ ولم نُعد إلى السطح، فقد أضعنا الطريق.